استناد أولئك الإسلاميين يقوم في معظمه على ما يقوله أصحاب التصميم الذكي من نقد للنظرية، وهؤلاء أساسا لا ينتقدون كامل النظرية كما أنهم لا يقدمون نظرية أخرى أكثر تفسيرية وإنما يكتفون بنقد جزئيات في نظرية التطور.
في الحديث عن هذه المسألة الشائكة دعوني أتحدث عن زاويتين في قضية التطور، الزاوية الأولى: وهي الزاوية العلمية وهي تنقسم لقسمين: أولها الحقائق العلمية التفصيلية في النظرية، وهي ما تنتمي لما يسموه التطور الأصغر، وهذه حقائق علمية، وثانيها: النظرية العلمية في الموضوع وهي المحاولة التفسيرية للربط بين تلك الحقائق، ويدخل فيها ما يسمونه التطور الأكبر، أما الزاوية الثانية فهي الشق الفلسفي وهذا ما يدور حوله الخلاف ممن يستخدم النظرية لرفض الإله رغم أن النظرية ذاتها لا تقول ذلك.
نظرية التطور في نظري هي النظرية العلمية الأكثر تفسيرية للخلق، وكل يوم يؤكدها العلم بدرجة أكبر، ولا أجد في القرآن ما يخالف هذه النظرية بل في القرآن ما يتوافق معها. وخلافنا مع بعض دعاة التطور ليس في النظرية العلمية ذاتها، لأن هناك علماء أحياء مؤمنون بل متدينون كثيرون يقولون بها، ولكن الخلاف في الشق الفلسفي الذي يحاول أن يبحث في ما قبل الخلية الأولى، وفي طبيعة التطور ذاته هل هو موجه أم ذاتي.. فنحن نؤمن أن التطور موجه من الخالق، وهو من خلق الخلية الأولى.
وهذا الشق الفلسفي ليس من أصل النظرية العلمية وإنما هو محاولة لسد الفجوات المعرفية التي لم يستطع العلم الوصول إليها.. والفلسفة الدينية الإسلامية أكثر قوة وتماسكا في تفسير ذلك من الفلسفات الأخرى.
بحثت خلال سنتين عن القضية واقتنعت بتلك النظرية ووجدت أن غالبية علماء الأرض مقتنعون بها ومن عارضها وهم قلة جدا يعارض في بعض تفاصيلها لا في جوهرها. وليست قضيتي هنا إثبات النظرية أو الدفاع عنها من عدمه، فلست متخصصا في الأحياء، وإنما قضيتي ببساطة أن هذه النظرية المعترف بها في الأوساط العلمية لا تناقض الدين، وهذا ما سأحاول أن أمر عليه سريعا في هذا المقال وبعده.
قد يقول قائل: ولماذا لا تذهب لتقرأ في الدراسات العلمية الغربية ما تقوله النظرية وما يقوله من خالفها، أقول ببساطة: ليس لدي عمرا كافيا لأدرس كل التخصصات وأفحص كل النظريات، فهذا جهد يحتاج متخصصا وعمرا من السنين، ولكن لدي طريقتان وملكة أستطيع بهما تمييز ما أراه أكثر صوابية، أما الطريقتان فموثوقية المصدر العلمي، ومدى تماسك الفكرة، وأما الملكة فأستخدمها مع الناقلين العرب للكلام حول النظرية مع أو ضد.
أيضا لست مستعدا أن أرفض ما تقوله المراكز العلمية في كل بلاد العالم مقابل القول أن هناك مؤامرة لإخفاء أي قول يناقض النظرية كما يقوله البعض، أليس للكنيسة تمويل لبعض الأبحاث بل وسيطرة ما في المجال العلمي، وهذه النظرية كانت تصادمهم بدرجة كبيرة لأن نصوص الكتاب المقدس فيها من الدلالة ما يصعب تأويلها بعكس ما ذكر في القرآن فإن الآيات جاءت عامة تقبل التأويل بل وتتوافق أحيانا في ظاهرها مع التطور، إذن فهذا القول متهافت ولا قيمة له لأن الكنيسة إن وجدت تيارا كبيرا ينقض النظرية فإن بإمكانها دعمه والوقوف معه، بل وإبرازه بشكل أكبر، ولا تستطيع تلك المراكز أن تلجم الجميع فالمجتمع العلمي ليس بتلك الصورة الساذجة.
أما من يقول إنها نظرية فقط لا حقيقة، ولذا يردها ببساطة لذلك المنطق فليعلم أن كل العلوم تحكمها النظريات، والنظرية العلمية لا ترفض بهذه البساطة، فالنظرية تفسر مجموعة من الحقائق العلمية بقدرة عالية، فإذا أردت أن ترفض نظرية علمية فهات نظرية علمية أقوى تفسيرية منها.. مع العلم أن من يرفض هذه النظرية بهذه الحجة قد لا يعلم أنه يؤمن بنظريات أخرى يظنها حقائق كنظرية الجاذبية أو النسبية أو الانفجار الكبير.
ومن القضايا التي تحتاج إلى توضيح أكثر هو أن نظرية التطور لم تعد ما قاله دارون وإن له هو أول من فصل فيها، بل لقد رفدتها الأدلة الجديدة الأكثر دقة مما قاله دارون وهناك تعديلات على بعض تصوراته، ولذا أجد أن أغلب الإسلاميين الذين يرفضون نظرية التطور يتوقفون فقط عند كتابات دارون ولا يتنبهوا لما حصل بعد دارون خلال مئة وخمسين عاما، وخاصة في العقدين الأخرين مع دراسة الجينوم البشري.
أيضا فإن استناد أولئك الإسلاميين يقوم في معظمه على ما يقوله أصحاب التصميم الذكي من نقد للنظرية، وهؤلاء أساسا لا ينتقدون كامل النظرية كما أنهم لا يقدمون نظرية أخرى أكثر تفسيرية وإنما يكتفون بنقد جزئيات في نظرية التطور، مع العلم أن هؤلاء لا يتجاوزون 1 أو 2% من المجتمع العلمي، وأما التشكيك بهذه النسبة من قبل الدكتور إياد قنيبي فإجابته أعلاه عن دور الكنيسة.
في الحقيقة أني بعد هذا المشوار من البحث وجدت أن أكثر من أقنعني ووجدت في كلامه منطقيا علميا بلا تعصب أو تحيز هو البروفسور نضال قسوم، وخاصة في حلقته التي رد بها على أسئلة كثيرة اعترضت عليه، فقد بدا الرجل واضحا في هضمه لما كتب حول الموضوع ولما طال حوله من نقاش، وقدم تفصيلات دقيقة لم يتنبه لها منتقدو النظرية أو أنهم تعاموا عنها تعصبا لرؤيتهم، وقسوم من الشخصيات العلمية التي اشتغلت على علاقة الدين بالعلم في مؤلفاته، ولذا فهو محسوب على معشر المتدينين لا غيرهم، أقول هذا حتى لا يظن ذاك الإسلامي أن الرجل يروج للإلحاد كما هي التهمة الساذجة التي لا تفرق بين العلم والفلسفة، وأن الفلسفة إجابة أعمق وأكبر عن أسئلة لماذا حصل هذا؟ أما العلم فيكتفي بالإجابة على سؤال كيف حصل هذا؟
في المقال القادم سأتطرق للآيات القرآنية التي أرى فيها إشارات لفكرة التطور في الخلق، وتأويل آيات أخرى متجاوزا الفهم السائد لأنه ليس ملزمة ما دامت الآيات تحتمل غيره، المهم هو أن لا نتجاوز المعنى الواضح في الآية وهو ما يسميه الأصوليون “قطعي الدلالة”.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.