تغادر مئات الفتيات في اليمن مقاعد الدراسة نتيجة الزواج المبكر، ويتم تحميلهنّ أعباء كبيرة تفوق طاقاتهن، ناهيك عن الأضرار الصحية التي تصيبهنّ. *اندبندنت عربية
“اتفق عمي مع أبي على تزويجي أحد أولاده خوفاً من تغرير الحوثيين به وزجّه في جبهات القتال، كما يفعلون مع شباب كثر من أبناء منطقتنا”، هكذا قالت “ع.م.ح” وهي تحكي قصتها لإحدى العاملات الصحيات في مدينة عمران (شمال اليمن)، الواقعة تحت سيطرة الحوثيين ومركز ثقل جماعتهم المسلحة.
كانت الفتاة ذات الـ14 خريفاً فقط، والتي تتحدّر من محافظة هي الأفقر في اليمن، تنتظر دورها أمام عيادة نسائية، حاملة في أحشائها جنيناً في أشهره الأولى، برغم معاناتها فقراً في الدم وهزالاً واضحاً.
تغادر مئات الفتيات في اليمن مقاعد الدراسة نتيجة الزواج المبكر، ويتم تحميلهنّ أعباء كبيرة تفوق طاقاتهن، ناهيك عن الأضرار الصحية التي تصيبهنّ، إضافة إلى تعرض بعضهن للعنف بصوره المختلفة.
حظيت ظاهرة زواج الصغيرات خلال السنين الماضية باهتمام شعبي ورسمي في البلاد، وخاصة بعد أن أصبحت نجود علي ابنة السنوات العشر أيقونة عالمية، بعد مقاومتها لزواجها، الأمر الذي انتهى بها إلى الطلاق حسب رغبتها، ولقيت إشادة عالمية، حيث أشادت بها هيلاري كلنتون وكونداليزا رايس. لكن زواج القاصرات باتت أخيرًا ضمن القضايا الهامشية وتراجَعَ التركيز عليها أمام ملفات كبرى تسببت بها الحرب التي تعصف بالبلد الفقير منذ نحو أربعة أعوام، إذْ بات الجوع يهدد حياة 13 مليون شخص (ما يقارب نصف عدد السكان)، ما جعل الأمم المتحدة تطلق تحذيراتها من خطورة أن “يتحول الأمر إلى أسوأ مجاعة في العالم منذ قرن”.
احتلّت أخبار الحروب الحيز الأكبر من تغطيات وسائل الإعلام التي تراجعت اهتماماتها بالقضايا الاجتماعية، غير أن هذا لا يعني تلاشي تلك الظواهر من اهتمامات الناس، بل على العكس -وفقاً لمراقبين وناشطين اجتماعيين-، فقد أخفت الحرب تلك الظواهر مؤقتًا وتسببت في تحاشي الناس الحديث عنها.
واستطلعت “الإندبندنت عربية” آراء كثيرين حول ظاهرة زواج القاصرات في اليمن، فأفادوا بأنها في ازدياد، إذْ تضافرت أسباب عدة أنتجتها الحرب في تعزيزها، كالنزوح، وحاجة الأُسر إلى المال، إضافة إلى ثقافة رائجة في المجتمع اليمني هي تزويج الصغار من أجل “تعقيلهم” وحمايتهم في ظل ظروف أمنية واقتصادية بالغة التعقيد.
عادة أكثر منها دين
من جهة أخرى، يرى الداعية ورجل الدين “علي السعيدي”، أن “تزويج القاصرات في المجتمع اليمني يندرج في الدرجة الأولى في خانة العادات والتقاليد، وينتشر في الأرياف والقرى حيث تقل نسبة التعليم، وليس للدين -بحسب علمي- علاقة في ذلك”.
واستدرك السعيدي: “بعضٌ ممن يُجيز زواج القاصرات يستند إلى حديث ورد في الصحيحين بشأن زواج النبي محمد من عائشة وعمرها تسع سنوات ووفاته عنها وهي في السادسة عشرة، لكنْ ليس هناك نص شرعي يحدد سنّ زواج الفتاة، إنْ في القرآن أو السنة”.
ويضيف الداعية اليمني لـ”الإندبندنت عربية”: “الحرب التي تدور رحاها في البلاد منذ نحو أربع سنوات زادت من حدوث مثل هذا الأمر، بدوافع الخوف على الفتيات من الضياع حينًا، أو الحاجة إلى المال أحياناً، في ظل ظروف اقتصادية قاسية تعانيها غالبية الأسر اليمنية، لاسيما تلك القاطنة في المناطق النائية، حيث يسود الجهل وعدم الوعي بأضرار هذا الزواج، النفسية والاجتماعية والصحية”.
أما المحامية لبنى القدسي، فقالت إن زواج القاصرات ظاهرة موجودة في غالبية الدول العربية، وليس فقط في اليمن، وهي في بعض مناطقه عادات وتقاليد وثقافة سائدة، حيث هناك مثل شعبي يمني قديم يقول “زوّج بنت الثمان وعليّا الضمان”، وهذا تكريس لمفهوم زواج القاصرات وأنهن على قدر عالٍ من المسؤولية، بصرف النظر عن صغر أعمارهن”.
دور حكومي ضعيف
تُعدّ ظاهرة زواج القاصرات أو الصغيرات في المجتمع اليمني، أكثر المجتمعات العربية محافَظةً، من القضايا التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الشعبية بين مؤيد ومعارض، بدوافع دينية واجتماعية في آن. وقد بلغ الجدل ذروته حين وُضع “زواج القاصرات” بندًا للنقاش تحت قبة البرلمان في العام 2010، إذْ انبرى بعض أعضاء مجلس النواب للمطالبة بإقرار قانون يحدد سنّ الزواج بثمانية عشر عاماً، للتصدي لفكرة الزواج المبكر وما يترتب عليها من مخاطر صحية واجتماعية، في مقابل رأي آخر يعدّ القانون في حال إقراره “مخالفةً للشريعة الإسلامية” وتعدياً على حريات الناس.
ولم يحدد قانون الأحوال الشخصية المعدّل لدولة الوحدة في العام 1999 سِنَّ الزواج، على رغم تحديد قانون الأحوال الشخصية في جنوب اليمن قبل وحدة الشطرين (أيار/ مايو 1990) سن الزواج بستة عشر عامًا، وفي شمال البلاد بخمسة عشر عامًا.
وتقول “القدسي” في حديث خاص لـ”الإندبندنت عربية”، إن وسائل الإعلام أبرزت خلال السنوات الماضية قصص فتيات تزوجن في سن مبكرة، ما حفّز كثيراً المدافعين عن حقوق الانسان، وفي شكل خاص الناشطات الحقوقيات، على القيام بحملات ضغط واعتصامات أمام مجلس النواب لمناصرة تحديد السن الآمن للزواج، ما أثمر في العام 2010 تقديم تعديلات قانونية لبعض نصوص قانون الأحوال الشخصية من قبل “اللجنة الوطنية للمرأة”، من ضمنها تحديد سن الزواج بـ18 سنة.
وتتابع بالقول: “تمت بالفعل حينها مناقشة التعديل وتداوله في البرلمان، ولكن ما لبث أن توقف العمل بذلك، ربما لمساومات سياسية بين بعض أعضاء المجلس الذين كانوا يرفضون ذلك المقترح” على حد قولها.
وتضيف الناشطة الحقوقية: “شكّل وجود النساء بنسبة جيدة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل في 2014، قوة ضاغطة في تحديد سن الزواج، فتضمنت مسوّدة الدستور الجديد تحديد هذا السن بـ18 عاماً، لكن مسوّدة الدستور توقف العمل بها عند انفجار الحرب في اليمن أواخر العام ذاته، وحتى يومنا هذا ليس هناك نص قانوني يحدد سن الزواج الآمن”.
موقف الأوقاف
أما وزير الأوقاف اليمني الدكتور أحمد عطية فيرى أن “قضية زواج القاصرات قد أحدثت الكثير من الجدل في اليمن، خصوصاً مع بروز بعض الحالات التي كان لها تأثير سلبي في حياة بعض الأسر، وأضرت صحياً ونفسياً بالقاصرات ممن تم تزويجهن بشكل مبكر، إما بسبب الفقر، أو بسبب الطمع في كسب المال، وأحيانا بسبب العادات والتقاليد التي اعتادت بعض المناطق أن تتماشى معها خصوصاً في الأرياف.”
ويضيف عطية “لعل الانقلاب الحوثي والحرب في اليمن قد زادت من رغبة بعض العوائل في تزويج القاصرات بشكل مبكر وذلك بسبب الأوضاع المادية التي حلت بالسكان”.
ويرجع وزير الأوقاف اليمني جذور المشكلة إلى العادات والتقاليد في المجتمع، وحالة الفقر والعوز التي تجعل رب الأسرة يقوم بتزويج القاصرة من شخص كبير في السن رغبة في الحصول على المال، وأملاً في الحفاظ على مستقبل ابنته في بيت قادر على دفع تكاليف الحياة بشكل أفضل.
ويؤكد عطية أن القضية على المستوى الديني “فيها خلاف واسع بين الفقهاء قديما وحديثا وهي مسألة اجتهادية ونوقشت كثيراً في البرلمان اليمني، لكن على الأغلب أن الرأي الشرعي يستند إلى أهل الاختصاص في العلم التطبيقي كالطب البشري وأطباء النفس،، والبحث في الأضرار التي قد يتسبب فيها الزواج المبكر، لأن من قواعد الشرع أنه لا ضرر ولا ضرار وبالتالي يتم الحكم بناء على ذلك.”
وبالنسبة للدور الحكومي يؤكد الوزير اليمني أن الحكومة سعت إلى إيجاد حلول لمثل هذه القضية “أولاً على المستوى خلق التثقيف الشعبي بخطر هذا النوع من الزواج، ومن ثم سن قوانين بالعقوبات على أي شخص غير مختص يحرر عقود زواج وهو على معرفة بأن أحد الطرفين دون سن الـ18″، ويؤكد أنه تم التوافق في مخرجات الحوار الوطني على تحديد سن الزواج بـ 18 عاماً.
الأرياف.. بيئة خصبة
يُجمع كثيرون ممن استطلعت “الإندبندنت عربية” آراءهم، على أن ظاهرة زواج القاصرات تنتشر كثيرًا في الأرياف والقرى النائية، وفي بعض الأُسر بالمدن أيضاً، ولا علاقة له بطائفة اجتماعية أو دينية معينة.
وللحد من هذه الظاهرة، يقترح هؤلاء وجود قانون يحمي الفتيات والطفولة، وضرورة توثيق عقود الزواج وحصول الفتاة (الزوجة) على بطاقة الهوية الشخصية، ما يحميها من الزواج في سن غير قانوني، إضافة إلى وجوب التنسيق بين الجهات المعنية من أجل التوعية بأضرار هذا النوع من الزواج على الفتاة وعلى المجتمع بشكل علم، وكذا توفير مصادر دخل للأسر الفقيرة وتيسير سبل العيش لها، للتقليل من انتشار تلك الظاهرة.
وتعتقد المحامية “القدسي” أن الصراع الدائر في اليمن عمَّق فجوة زواج القاصرات، وجعل الظاهرة تنتشر في شكل كبير، وإن لم توجد احصائيات رسمية بذلك.
وفق رأي القدسي، “لعب العامل الاقتصادي واتساع دائرة الفقر، الدورَ الأبرز في انتعاش زواج الصغيرات، يليه مبرر توفير الحماية للفتيات بتزويجهن في سن مبكرة، كما يدعي البعض، إضافة إلى تبادل مصالح بين الأسر أو تعميق علاقات إنسانية بين العائلات المختلفة”.