كان الجميع يبكي في صمت. كان الصمت يلف ثنايا المقبرة. كم مرة زرتُ فيها المقابر؟ لا أدري. كل ما أدريه أنني هذه المرة زرتها حقاً. إذن، مات أعز الأصدقاء وأنبل الخصوم.. مات حسن عبدالوارث.
ذات يوم بعيد، طلب الأستاذ زكي بركات (رئيس تحرير جريدة “الثوري” حتى مطلع 1986) من أحد الزملاء تدبيج مرثية لأحد مناضلي ثورة أكتوبر والحزب الاشتراكي الذي رحل للتوّ. غير أن الزميل حميد جمعة لم يكن يعرف الفقيد من قريب أو بعيد! .. فاذا به يتمثّل قبالته أحد مناضلي الحزب الشيوعي العراقي الذي كان جمعة أحد ناشطيه، وراح يُسقِط صفات المناضل العراقي المعلوم على المناضل اليمني المجهول.
بعد اتمام “المهمة” قرأ زكي المرثية، فأعجبته كثيراً، ما دعاه إلى صرف النظر عن رثاء ذاك المناضل بها، وأودعها حقيبته الشخصية قائلاً: انني أستحقها، فلتُنشر بعد رحيلي!
ولا أعتقد أن أحداً يعرف مصير تلك المرثية اليوم. وقد مات زكي بركات في مذبحة 13 يناير، فلم يُعرَف له قبر، ولم يُعقَد له عزاء، ولا نُشِر له رثاء!
منذ ذلك الحين، وأنا أحاول كتابة مرثيتي الخاصة التي أشاء أن تُنشر بعد رحيلي، وأعجز دائماً عن اتمامها. وقبل أيام استشعرت دُنُوّ الأجل ربما، فرحت أكتب شيئاً وأستحضر أشياء، وأستعيد نصاً قديماً كدت أنساه، داعياً أصدقائي إلى نشره مرثيةً بعد الرحيل المرتقب:
…
لستُ أُصدّق حتى هذه اللحظة أنه رحل إلى الأبد.
جاءني النذير مُطلقاً في وجهي أقسى جملة سمعتها أذناي:
– لقد مات…
لم أُصدّق. ظننته يهذي، أو أُصيب بمسٍّ من جنون.
كيف يموت وهو أكثر الكائنات احتفاءً بالضوء!
كيف يموت وهو الذي يُنبت في صخرة الموت رياحين الحياة!
كيف يموت وهو من تُغرد الطيور كل صباح لحناً صاغته أوتار قلبه!
كيف يموت وهو الذي احتسى كؤوس القصائد، وحطّم صحون الموائد!
وما زلت أذكر -ولن أنسى- أجمل لحظات حياته كلها، تلك التي يلهو فيها مع وليده الوحيد.
وقد سألته يوماً: ما أجمل شيء في نظرك؟
فأجاب: ضحكة طفل.
وسألته: وما أتعس شيء؟
فقال: دمعة طفل.
وما زلت أذكر -ولن أنسى- كيف كان يخشى الصعود إلى الأماكن العالية. وكيف كان يمقت الزحام والعسس وأنصاف الموهوبين ومُزوّري التاريخ. وكيف كان يكره اللون الأصفر والابتسامات الصفراء.
وما زلت أذكر -ولن أنسى- حين أتاني ليلاً وهو يجهش ببكاء حار، بعد أن سمع خبراً، أتضح بعدها أنه إشاعة تزعم بأن فيروز قد رحلت.
وما زلت أذكر.. ولن أنسى..
…
وذهبتُ إليه. ألقيتُ على وجهه الباسم الوضاح آخر النظرات. شيَّعته -كما شيَّعه الآخرون- بصمتٍ صارخ بالحزن. وسرتُ خلف النعش من دون هدى. جلتُ بنظري الكسير في موكب التشييع، فأدركت كم كان يحب الناس.. وكم كانوا يحبونه.
ولم أفق من حزني وانفصالي عن الوعي، حتى بعد أن ووري القلب الحي باطن الثرى.
كان الجميع يبكي في صمت. كان الصمت يلف ثنايا المقبرة.
كم مرة زرتُ فيها المقابر؟ لا أدري. كل ما أدريه أنني هذه المرة زرتها حقاً.
إذن، مات أعز الأصدقاء وأنبل الخصوم.. مات حسن عبدالوارث.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.