لا بد من التنويه إلى أهمية الحفاظ على روح الأغنية الأصلية والتعامل معها بمنطق أثري لا يجوز المساس بمعالمها الأساسية وطمس الإحساس والشجن والتدفق الشعوري بعض الأغان لا بد أن تستمر وتتداولها الأجيال المتعاقبة ككبسولة حظ ، تعيد اليمني لجوهره كلما تاه، أو أخذته الأحداث والظروف والمتغيرات بعيدا عن فطرته وعنه..!
” الحب والبن ” هذه الملحمة الغنائية التي صاغها العبقري مطهر الأرياني وصدحت بها حنجرة الكبير علي بن علي الأنسي، نوع الأغاني التي تمكن من خلالها المبدعين من الرعيل الأول أمثال الأنسي من إعادة الأغنية والفن الغنائي عموما إلى وضعه الطبيعي بمنأى عن النظرة المجتمعية المازجة بين الطبقية والعيب، وبعيدا عن التصورات الدينية التنطعية والإدعاءات التفسيرية التي خلقت في فترة ما فكرا تصادميا مع كل أشياء الأنتشاء الوجداني والعاطفي، مخلفة حالة من التقشف والزهد المعيق للأبداع والتواصل الروحي والإنساني.
هذه الأغنية إحدى أبرز الأغان _ إن لم تكن أهمها على الإطلاق _ التي تعيدنا إلى الجمال أيام كان سافرا عن وجهه ، مغتسلا بالضوء والطل والسلام، إلى جو وحقول وسهول بلادنا وهي في هيئتها الأولى متحللة من أحمال الصراعات والحروب، ومتخففة من أثقال التزمت الديني والقبلي الطارئ.
لقد نجح الأنسي بمعية الأرياني من إعادة الاعتبار للغناء بوصفه لأزمة روحية، وضرورة وجدانية تعكس مكنونات إنسان هذي الأرض ، وتفلتر في المقابل كل القادم إليه مستندة في ذلك على عفوية ونقاوة ذائقة الفلاح اليمني المتشبع بمواسم الخير والعطاء والمتربي على عز التاريخ وثراء الموروث.
على أن عظمة الأغنية ( الملحمية) لا تقتصر عند حدود بث المشاعر وجعل الحب متاحا، مواتيا وموازيا للماء والهواء ، بل أن أسلوب التناول والأداء المترع بالذوق والطهر والعفه والبساطة أرتقى بالأغنية لتكون قيمة فنية واجتماعية تضمنت فيما تضمنته أيضا الحث على العمل والعطاء للأرض ، استنهاض همة الشباب لإنعاش زراعة البن كممثل للهوية والرخاء الوطني ، و برشاقة التوغل في التفاصيل الصغيرة قدمت ” الحب والبن ” صورة آسرة وآخاذة للريف اليمني في شكلة البهي وفي صورته البكر المرتبطة بالقلب مباشرة…!
مؤخرا راقت لي فكرة قيام الفنان الشاب أحمد سيف وبتمويل من (Smeps) وهي جهة تنموية داعمة بإعادة توزيع وغناء ” الحب والبن” ، وهي بالمناسبة ليست المحاولة الأولى التي سعت إلى تقديم بعض الأغان القديمة والتراثية بشكل محدث ، عصري ، وبأدوات ووسائل يستسيغها الشباب ويمكنها من الحضور الدائم والمنافسة ، إذ كان الفنان الشاب هاني الشيباني قد قدم في فترة سابقة ( ما نزلتك بير العزب، ومسافرين) بإيقاع جديد يحاكي في بعض تقسيماته وتنقلاته رتم الموسيقى الغربية وبقالب الفيديو كليب ، وجميعها تجارب تستحق الإشادة والدعم ، غير أنه لا بد من التنويه إلى أهمية الحفاظ على روح الأغنية الأصلية والتعامل معها بمنطق أثري لا يجوز المساس بمعالمها الأساسية وطمس الإحساس والشجن والتدفق الشعوري في تلك الأغاني التي باتت تشكل جزء من هويتنا الثقافية ، هذا الأمر من أولويات الشروط الذي يفترض بالمجددين الشباب وضعه نصب أعينهم ، فالفكرة هي الإضافة وليس التشويه ، والبتر والإجتزاء المخل بقيمة أو فكرة الأغنية ، وبالعودة لأحمد سيف فالأمانة تقتضي الإشادة بمحاولته التي اقتربت إلى حد ما من جوهر أغنية ” الحب والبن ” غير أن اعتيادنا كمستمعين وألفة صوت الأنسي شكل تحد إضافي أمام سيف.