سنقترب من موسم الدفء والحب والمطر، ونتغنى في أيامه ولياليه المُمطرة، بأناشيد أخرى (1)
استيقظت هذا الصباح على صوت التهاطل الغزير للمطر، شلاَّلات مائية تتساقط دون انقطاع، وقفت أمام نافذة غرفتي مُتَمَلِّياً في خيوط الماء المتلاحقة، في شكل قطرات منفصلةٍ ومتصلة في الآن نفسِه، خُيُوطٌ منسوجة بدقة، وصانعة لشبكات تتخللها ألوانٌ لا حصر لها، كما يتخللها بريق لامع داخل القطرات المتراصة بجوار بعضها وفوق بعضها .قطرات مكثفة تَتَسَاقَط على أديم الأرض، فتنفرط الشلالات المائية، لتبدأ رحلتها الثانية في باطن الأرض، بعد أن انتهت الأولى القادمة من غيوم السماء..
لاحظتُ وأنا أصوِّب نظري نحو المطر، الذي يتساقط أمامي دون انقطاع، أن رذاذه المتطاير يرتطم بزجاج نافذتي، الأمر الذي يرفع درجة انتباهي، ويجعلني منتبها أواصِلُ النظر دون توقف. أتأمل بعنايةٍ وانتباه زَخَّاته المتلاحقة، وكأن هذا الذي أرى الآن، يحصل لأول مرة.. أعرف أنه حصل و يحصل سنوياً بدرجات متفاوتة في كمية السقوط وزمنه، ومع ذلك أواصِلُ الوقوفَ والنَّظر.. أسمع جيداً صوت ارتطام قطرات المطر بالأرض وبالتراب، وأرى القطرات وقد تناثرت حباتٍ، فلا أعود أميِّز بين المطر ورذاذه.. فقد كانت السماء ملبََّدة بغيوم داكنة، كما كانت الرياح التي تتخلَّل شبكات المياه، فتجعل قطراتها تَتَنَاثَر في كل اتجاه..
تذكرت أن دورة الزمان دخلت منذ مدة فَصْلَ الشتاء، أكثر الفصول في دورة السنة جَهَامَةً، وأكثرها في الآنِ نفسِه فتنةً.. أكثرها قرباً من سنواتٍ مُحَدَّدَةٍ في عُمرنا، يتعلق الأمر بسنوات الطفولة، وهي سنوات البراعم النديَّة والاكتشاف الطفولي للعالم.. وسنوات العمر المتأخرة، وهي سنوات العجز التي ترتفعُ فيها بشكل ملحوظ، طاقةُ إنتاج البشر لمختلف صوَّر وأشكالِ الحنين.
لا أتردَّد في وصف فصل الشتاء بفصل الأناشيد الشجية، أناشيد الحنين والدفء، أناشيد المطر.. أستحضر هنا، بصيغة الجمع قصيدة بدر شاكر السياب أنشودة المطر، القصيدة التي خَاطَب فيها عيون معشوقته، بإيحاءات ورموز تحمل موروثاً عريقاً من جغرافية العراق، النخيل والصحراء وسَاعَةَ السَّحَر، وهي رموزٌ يحضر فيها المطر حين يحضر على نُدْرَته بإيقاع منتظِم. يحضر ثم يغيب بعد أن تلامس قطراته رمال الصحراء، ليتسرب ما تبقى منه في باطن الأرض فَيُغَذِّي جذور النخل وباقي النباتات، الباحثة عن قطرة ماء..
يحضر المطر في قصيدة السياب، ليصنع فضاءات مُلَوَّنَةٍ بالأصوات، تحضر لازمة المطر ويتكرر حضورها في مختلف مقاطع القصيدة، مَطَرْ مَطَرْ مَطَرْ.. فنحس بأصواته وما يتولّدُ عنه من أفعال عند ملامسته للرمال، ومن روائح تلتقطها مختلف مَسَامّ الجسد، فَتَتَوَلَّدُ عنها أحاسيس في الأعين والآذان لا تُوصف.
استرجعت بعض إيحاءات أنشودة المطر، وأنا أقف أمام نافذة غرفتي متأملاً سقوطه ، ورغم أنني لا أريد الحديث هنا عن القصيدة، إلا أنني أعتبر أنها رسمت في الديوان الذي يحمل عنوانها، قبل ما يقرب من ستة عقود من الزمن (1960)، جوانب هامة من سمات الشعر العربي المعاصر، كما رسمت ما يمكن إدراجه ضمن الرأسمال الرمزي الخاص بالمبدع، ذلك أن بعض المفردات تصبح مِلْكاً لمبدعيها، بحكم ما تستوعبه من إيحاءات قوية وإيقاعات منسوجة بأحاسيس عالية، فتنتقل ملكيتها من المعجم اللغوي والثقافي العام والمشاع داخل ثقافة معينة، لتصبح جزءاً من المأثور الخاص بمبدعها، والمأثور الخالد لإبداع الناطقين بلغتها، الأمر الذي يجعل كل اقتراب منها مُهَدَّد بحمل جزء من دلالاتها، ومن القوة التي أصبحت مُشْبَعَة بها..
نُدرج ضمن هذا الأفق، جاذبية مفردات عنوانها، ولهذا السبب بالذات، لم أستطع لحظة اقترابي من مُتع فصل الشتاء، أن أنفلت من سِحر وجاذبية أنشودة السياب، فاتجهت بدوري صوب مجال التغني بأناشيد المطر، احتفاءً بأنشودة السياب، واللؤلؤة المضيئة في الشعرية العربية.. فهي تشكِّل اليوم في ذاكرتي قوة جذب لا تُقَاوَم.
(2)
سنقترب من موسم الدفء والحب والمطر، ونتغنى في أيامه ولياليه المُمطرة، بأناشيد أخرى.. ذلك أن لفصل الشتاء إضافة إلى الأناشيد المتداولة معزوفاتٌ وأنغام، كثيرٌ منها لا نسمعه، وقليل منها يصلنا مصحوباً برذاذ الماء وأحاسيس البَرْدِ القارس، ونُتَف البَرَد والثلج، التي تصاحب احتفالات وطقوس أيام وليالي الشتاء.
تتنوَّع أناشيد المطر بتنوُّع أماكن نزوله، وبالأشكال التي يكون عليها أثناء سقوطه. فهو عندما يسقط وسط الحقول المترامية الأطراف أو فوق الغابات، يتخذ مواصفات حفل غنائي شامل، حيث تُصَاحِبُ عمليات تَهَاطُلِه الرقيقة أو العاصفية، أصواتٌ وإيقاعات بعضها هامس وبعضها زمهرير، أصوات يستشعرها الذين يحضرون حفل بدايات تهاطله في يوم ماطر. أما عندما يسقط داخل المدن، فإنه يُوَلِّد أحاسيس أخرى، حيث تبدو البناياتُ والطرقُ عاريةً، وحيث يُسرع المارة أو يهرولون.. فينخرط الجميع في لحظة استحمام جماعي، تتيح للبنايات والطرقات والبشر مناسبةً دوريةً منتظمة للتخلص من أتربتها، وتعانق بشوق قطرات المطر وطعومه، لتظفر بمزاياه ومباهجه.. وفي مختلف هذه الحالات، ينتظر البشر سنوياً في البوادي وفي الحواضر مواسم المطر، كما ينتظرون الأعياد. ويعدُّون العدَّة اللازمة لمواجهة صقيعه وعواصفه وأنوائه .
تتنوَّع أناشيد المطر أيضاً حسب مراحل العمر، ففي مرحلة الطفولة الأولى، ينتبه الأطفال لحدث نزول المطر باعتباره مناسبة ثمينة لِلَّعب الجماعي، ونعثر في أناشيدهم المتوارثة على كلمات وإيقاعات تتغنى بمزايا الفصل وَمَحَاسِنِه. أما في المراحل المتأخرة من العمر، فيصبح لأشْهُر المطر طعم خاص، يقترن بصوَّر من الحنين الجارف لشتاءاتِ سنواتٍ خَلَت.
نندهش بسقوط المطر، رغم أننا نستأنس به وبصوَّر نزوله السنوي، التي لا تُغَيِّبُها سنوات الجفاف التي توالت في العقود الأخيرة.. فنحن ننتظر سقوطه سنوياً.. بل إن منا من لا يتردد في مواجهة تأخر سقوطه بقراءة اللَّطيف مع من يقرأونه، من أجل فصلٍ مَاِطرٍ يمنح الأرض خصوبة، فَتخضرُّ الحقول وتورق الأشجار، وتنفجر ينابيع من الزهور من كل الألوان.. إلا أن علاقتي الخاصة بِأَشْهُر البرد والمطر، تتجاوز الأحاسيس الجمالية العديدة المقرونة به في وجداني وفي ذاكرتي، ولهذا السبب استقر الفصل في خاطري مُقْتَرِناً بمعزوفتين حميميتين، يحصل انسياب إيقاعاتهما الرقيقة بكثير من الصفاء في وجداني كلما حلَّ فصل الشتاء، وعادت أجواء ومناخات حُلُولِه.. يتعلق الأمر بأنشودة الصبا، وتتخللها معزوفات الدفء والبراعم وقطرات الندى.. وأنشودة الحنين المقترنة بولوج أبواب الشيخوخة، وتخترقها معزوفات شجية مُكَثَّفَةٌ وهادئة تُعْنَى بالحب والحياة.
(3)
للمطر في ذاكرتي أناشيد الدفء وأخرى للحنين، أناشيد تشدني إلى مطر الطفولة، فأتذكَّر أحاديث الأمهات والآباء عن المطر وأدواره في نشأة الكائنات الحية، وكذا أدواره في تخصيب التربة وتهييئها لمواسم حصاد مثمرة.. ولأن طفولتي تقترن بمسقط رأسي، في مدينة داخلية وسط المغرب على حافة الأطلس المتوسط، ولأن خمسينيات القرن الماضي كما عشتها يافعاً كانت ممطرة وباردة جداً، فقد كنت أحرص على مجابهة أيامها، التي كانت تستقر في العادة أسبوعاً أو أسبوعين دون توقف، فتنتشر السيول في كل مكان، ويعم البرد القارس، بنوع من اللباس والغذاء الذي يمكِّنني من تحصيل حدودٍ دنيا من الدفء، تتيح لهم الإفلات من عِلل الشتاء وأنوائه.
تربَّيت في بيتنا على إحاطة جسمي بجلباب صوفي يقيني من لسعات البرد.. كنت أستيقظ باكراً للذهاب إلى المسجد من أجل إتمام حفظ القرآن، كما كانت تقضي بذلك الأعراف.. المسجد وما أدراك ما المسجد في قرى المغرب غير النافع، في بدايات خمسينيات القرن الماضي؟ أذكر أنني كنت أهيئ نفسي جيداً لمواجهة زمهرير الرياح وعواصف المطر.. لم أكن أتهيَّب ولا أتردد، وكان المسجد الذي يستقبلني مع بقية زملائي، يقع على بعد خطواتٍٍ قليلة من بيتنا.. أتجه صوبه مهرولاً مغتبطاً بحلول فجر يوم جديد، وحفظ ايات جديدة فلا يصيبني بَلَلٌ كثير..
لم أستطع التخلص من هذه الصوَّر، رغم أنني غادرت مسقط رأسي منذ ما يزيد عن نصف قرن، واستوطنت مدينة ساحلية بمناخ معتدل، إلا أن صوَّر أناشيدَ مَطَرِ الطفولةِ ظلت حاضرة في ذاكرتي، وموشومة في جسدي ووجداني.. وإذا كان من المؤكد، أن المسافات تباعدت اليوم بين طفولة تنتمي إلى زمن لم تعد له أي علاقة بزمن الانحباس الحراري، في الكون وفي الذات، فإن علاقتي بالمطر وأناشيد طفولته، لم تعد تمتلك نفس السحر الذي كانت مُغَلَّفَة به في الماضي.. بالأمس كنت أجري أهرول وكانت درجات حرارة جسمي وقلبي عالية، لا تهزها رعشة البرد ولا تخيفها سيول المطر الجارفة.. أما اليوم فقد أصبح الجسم العليل عبئاً على قلب يضخ الدم بحسابات أخرى.. لهذا أجد نفسي مُستكيناً إلى مزايا الحنين بكل ما تََهَبُنِي من صوَّرٍ وأحاسيس تنقلني في رمشة عين إلى بَهَاء أزمنةٍ خَلَت، إلى عقود من الزمن تتوارى مخلفةً كثيراً من الأحداث والمواقف والأحاسيس، التي نملك القدرة على استعادة بعضها، ونَيْلِ ما نريد منها من المتع المُفتقدة دون عناءٍ ولا حرج.
يُواصل فصل الشتاء حضوره السنوي، وتتواصل السنوات والعقود بِمَطَرٍ أقلَّ أو أكثر، وِفْقَ حسابات من يعنيهم أمر سقوطه. أما المطر، الذي يرتبط في وجداني وذاكرتي بحكايات الطفولة وأناشيدها، كما يرتبط بأنشودة المطر، فقد بدأت كثيرٌ من علامات إِشراقِه تتلاشى لتزداد سحراً وتوهُّجاً لحظاتِ تَذَكُّرِها، وهي لحظات تجعلني أُلامِس شَعْر رأسي بين الحين والآخر معتقداً أن قطرات المطر تتساقط بسخاء فوقه، وإن بعضُ حباتها الباردة تغطي جبيني، فأمسحها بيدي ثم أواصلُ السَّيْر.
نقلا عن “ضفة ثالثة”