مما لا شك فيه أن الأوضاع السيئة التي خلفتها الحرب والمتاعب الاقتصادية قد دفعت بأناس كثر إلى خيارات ضيقة أصبحت معها الحياة تساوي الموت. وهناك سجل عامر من أحداث العنف العائلي والانتحار الفردي لأسباب عديدة منها اقتصادية ومنها اجتماعية ومنها ما هو نتيجة لأمراض نفسية.
فجع الناس في اليمن على خبر انتحار تربوي يمني من مبنى مرتفع في العاصمة صنعاء. ليست الفاجعة الأولى التي يتعرض لها اليمنيون. لكنه حدث ذو دلالات رمزية عديدة تستحق الوقوف عليها وإعادة قراءة الحدث.
مما لا شك فيه أن الأوضاع السيئة التي خلفتها الحرب والمتاعب الاقتصادية قد دفعت بأناس كثر إلى خيارات ضيقة أصبحت معها الحياة تساوي الموت. وهناك سجل عامر من أحداث العنف العائلي والانتحار الفردي لأسباب عديدة منها اقتصادية ومنها اجتماعية ومنها ما هو نتيجة لأمراض نفسية.
ومع الحروب تتفاقم المشاكل الاجتماعية وتسبق وتضارع الحروب انتحارات كثيرة. إلى ما قبل الحرب كانت نسبة الانتحار في اليمن تقارب 4% قياسا بنسبة تصل إلى 17% في بلد كالسودان أو 12% في بلد كالصومال. وهما بلدان يعانيان من مشاكل واضطرابات سياسية لفترة طويلة. وهذا يعني أن نسبة الانتحار قد ارتفعت في اليمن نظراً لحدوث تغيير جذري في الشرط الاقتصادي والسياسي في اليمن.
والحقيقة أن الانتحار مؤشر هام جداً في الدراسات الاجتماعية وكاشف لتحول المجتمع وعذاباته وشقائه. بل لأن اميل دوركهايم، أحد أعلام علم الاجتماع جعل من الانتحار مادة رئيسة لأبحاثه التأسيسية في علم الاجتماع.
في حادثة الانتحار الفاجعة، كانت ثمة عناصر ملفتة للنظر يمنح الحق في التركيز على هذه الحادثة وهي:
أولاً، انها حادثة مصورة. بالتالي لم يعد الأمر مجرد حدث وانتهى أو خبر عابر يمكن مواراته والتهرب من حقيقته من خلال الاعتماد على السمع أو القراءة فقط لمعرفة ما حدث، لكننا أمام صدمة الصورة التي تجعل الحدث حياً لأنه تسجيل فيديو. والغريب أن بعض الدراسات تشير إلى دور وسائل الاعلام ومشاهدة لحظات انتحار في التشجيع على الاقدام على الانتحار. لكن الفيديو ينتشر أكثر دون أي مسؤولية نشر.
ثانياً، انها من تربوي بكل ما تحمله الكلمة من معاني الاجلال والتقدير والرسالة. أي انه لم يكن شخصا مراهقا حديث السن ولا منبوذا لكنه شخص على احتكاك بتلاميذ ويضع فيهم شيء من شخصيته، طموحاته وانكساراته.
ثالثا، أنها رسالة تحذيرية صادمة لما وصلت إليه الأمور في الوسط التعليمي وبين الموظفين الذي لا يستلمون رواتبهم منذ سنوات.
لكن الجانب الآخر الذي أريد التشديد عليه هو مفهوم العنف في هذا الحدث باعتباره نتيجة ومولِّدا للعنف في آن. كل التمهيد أعلاه حول الظرفية التي يعيش فيها الناس من الناحية المادية والمعنوية، والذين ينامون ويصحون على أخبار الموت والاعتقالات وفقدان الأمل.
يصابون بالبلاء في أقرباء لهم تحصدهم ألغام أو يخطف أعمارهم قناص لئيم أو تأتيهم قذيفة كاتيوشا أو تحصد أرواحهم قنبلة من طائرة حربية في مساكنهم المسالمة.
وهم فوق ذلك عرضة لخطاب تهديد ووعيد وتحشيد وتخندق وتكفير ومنقسمون بين منافقين ومجاهدين، بين وطنيين ومرتزقة وفقا للخطاب الحربي.
الخلاصة هي أن حالة الانتحار التي أقدم عليها مدرس في صنعاء لا تعكس حالة البؤس وصعوبة الحياة فحسب، لكنها تعكس مقدار العنف الذي يسيطر على النفوس.
يتلقى الناس العنف بأشكاله المعنوية والمادية. والانتحار هو رد فعل عنيف.
هذه المرة العنف ذاتي، لكنه يستخدم الموت دفعة واحدة للرد على العنف والموت. وسيكون الموت المرة القادمة وسيلة للرفض ولكن عنفاً غير ذاتي وليس انتحارا. أي أننا سنشهد انتقال من سلبية الفعل وممارسة الموت على الذات إلى مبادرة بالفعل وتحويل الموت نحو الآخر/ الفاعل للتعمق أبعاد الحرب الاهلية والاقتتال المفتوح. لن يكون هناك مجالاً للحوار والفعل السياسي أو الاحتجاج لأنها مغلقة بفعل الحرب، ولكن أتوقع أن يكون العنف المجتمعي فعل لرد فعل العنف الذي يتعرض له الناس بفعل سياسي. هذه مؤشرات لمزيد من الانتفاضة والتمرد والرفض. لكنها حالة هشة يمكن أن ينزلق معها الأمر إلى صيغة متطرفة أو تستغلها التيارات المتطرفة لتستقطب عناصر غاضبة وتغريها بأن تجعل من عنفها فكرة للخلاص الذي يقود إلى نعيم مجهول في الجنة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.