فيما يخص قضية الالتزام ضمن خطاب الرواية الجديدة، ورغم طبيعتها الواقعية، فمن الواجب الفصل بين التزام الروائي والتزام العمل الروائي يقدم مؤلف “الرواية الجديدة والواقع” (كتاب “الدوحة” العدد91/ ديسمبر 2018، ترجمة: رشيد بنحدو) رصدا سوسيولوجيا لسياق تلقي “الرواية الجديدة” في المجال التداولي الفرنسي ضمن حقبة ستينيات وسبعينيات القرن الفارط، من خلال فتح المجال أمام سجال نقدي ومعرفي بين أهم الكتاب والنقاد الذين عاصروا مخاض هذا الانتقال من النمط الروائي الكلاسيكي نحو النمط الروائي الجديد. ورغم أن الأمر يتعلق بترجمة أشغال ندوة جرت أطوارها قبل أزيد من نصف قرن من الزمن، إلا أن القضايا النقدية والمنهجية والاجتماعية التي أثارتها تسعفنا بشكل كبير لفهم تأثيرها في بنية السرد الروائي العربي المعاصر من ناحية، وعلاقتها بتحولات العلوم الاجتماعية بفرنسا منذ مطلع ثمانينيات القرن الفارط من ثانية، رصدها لموقف الأدب من التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها فرنسا خلال العقود الأخيرة (قضايا الهجرة والاندماج) من ثالثة، وتساعدنا كذلك على فهم الشروط التاريخية للطفرة التي تعيشها الممارسة الروائية الفرنسية الجديدة خلال السنوات الأخيرة (رواية المهاجرين) من رابعة.
الرواية الجديدة والواقع
اقتران أم قطيعة
***
يتكون كتاب “الرواية الجديدة والواقع” من أربعة فصول، موزعة على أزيد من مائة صفحة، تمثل في الأصل ترجمة لأشغال ندوة علمية انعقدت خلال مطلع ستينيات القرن الماضي بمدينة بروكسيل البلجيكية حول ثيمة “الرواية الجديدة والواقع”، وأعيد نشرها سنة 1963 على صفحات “مجلة معهد السوسيولوجيا” (Revue de linstitut de sociologie n°2-1963) بجامعة بروكسيل المفتوحة تحت عنوان “إشكالات في سوسيولوجية الرواية” (Problèmes dune sociologie du roman). وقع اختيار المترجم على مداخلات كل من “ناتالي ساروت” (nathalie sarraute)، “آلان روب غرييه” (alain robbe grillet) و”لوسيان غولدمان” (lucien goldmann)، بالإضافة إلى بحث قيم ل”جينيفيان مويلو” (Geneviève Mouillard) يقدم لمحة عامة حول التعاطي السوسيولوجي مع الرواية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
تأتي أهمية الكتاب من كونه تجميعا لمداخلات علمية لأبرز الروائيين والنقاد الذين تفاعلوا مع حركة الرواية الجديدة بفرنسا. وبما أنه نادرا ما يجتمع الكتاب والنقاد على طاولة النقاش للتباحث في القضايا النظرية والمنهجية الشائكة، فإن ندوة “الرواية الجديدة والواقع” واحدة من اللقاءات التاريخية التي تبين أهمية وضرورة المصالحة بين الأديب والناقد لما فيه خير تطوير الممارسة الإبداعية والأدبية. وتأتي راهنية ترجمتها من وزن القضية التي تعالجها (الرواية الجديدة والواقع من منظور أدبي وسوسيولوجي) والتي تبدو مدخلا أساسا لفهم طبيعة التحولات البنيوية التي يعرفها جنس الرواية في علاقته بالتحولات الاجتماعية والتقنية والاقتصادية للبشرية، والوعي بانخراط الإبداع الروائي العربي نفسه في مسار التحول الإبداعي الجديد للرواية.
بالإضافة إلى محاججة المترجم في كون القطيعة التي حدثت بين الرواية الكلاسيكية والرواية الجديدة تقترن باستعلاء لغة السرد عن الواقع، تشظي بنية النشاط السردي نفسه، فقدان أنماط الحكي (زمنية ومكانية الحكي) لترابطها الكرونولوجي والمجالي السلس والبسيط، تسليط الضوء على العبث الأنطولوجي واللاشعوري للشخصيات في إطار العوالم النفسية والاجتماعية للذات الإنسانية… يمكن القول بأن هذا النمط الروائي الجديد متشبع بأفكار فلسفات ما بعد الحداثة (منذ نيتشه)، الوجودية (سارتر) والبنيوية (دوسوسير) في إطار الفلسفة المعاصرة، وبالتحولات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها أوروبا خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية (فيما يتعلق بإعادة التفكير الفلسفي في مكانة الذات في العالم ومركزية الأنا الأوروبية) وبروز الموجة الثالثة من الليبرالية التي دفعت الكتاب نحو تركيز الاهتمام حول المعيش واليومي في تعقيداته وتركيباته المختلفة أكثر من شكلانية الفعل الأدبي نفسه.
إذا كان بالإمكان تلخيص معنى الرواية الجديدة في كلمة واحدة، فلن نجد من توصيف دقيق غير “البحث”. بحث عن ماذا؟ عند هذه النقطة تأخذ الأمور منحاها الصائب. يتعلق الأمر بجعل العمل الروائي “بحثا مستمرا عن “الكشف عن واقع مجهول وإعادة خلقه، والانتقال من المعلوم إلى المجهول، من المرئي إلى الخفي” (ص: 24) من خلال تخليص أنماط السرد وبنيات الحكي من مركزية الشخصية الروائية الكلاسيكية وبناء وتشكيل الواقع انطلاقا من ربط القارئ بجوهر الفعل الروائي.
ساد فيما مضى تصور يربط بين توصيف الواقع وجودة العمل الروائي (في نظر القراء والنقاد)؛ وكأن أصالة “حرفة” الروائي تكمن حصرا في قدرته الخاصة على إصباغ عمله بطبيعة الشروط الاجتماعية والثقافية المنتجة لعصره، وبأن كل “أدب يستند على البحث هو أدب يكتبه بورجوازيون، ويخاطب بورجوازيين، وأن المطلوب وصف الصراعات الاجتماعية وتصوير الإنسان ملتزما ومنخرطا في الفعل الاجتماعي” (ص: 33). في حين أن مهمة –أو رسالة- الروائي تتجلى في ركوب غمار المجهول وجعل التجريب الإبداعي مقترنا بمبدأ الفعالية أكثر من الالتزام الصارم والحرفي بالأساليب والمعايير المحددة سلفا. ومنه تنشأ علاقة سببية بين عمق وأصالة الواقع المكتشف (جدة البناء الروائي للواقع) وقوة الأساليب والأشكال الروائية (جدة الأسلوب الروائي الباني للواقع).
نشأ عن هذا التصور “المبتكر” لمفهوم الواقع في إطار التجريب الروائي، نقاش آخر حول طبيعة حضور ثنائية الذاتي والموضوعي ضمن نسق الرواية الجديدة. فقد نظر العديد من النقاد كما القراء إلى هذه الروايات بوصفها موضوعية إلى درجة أضحت معها لاإنسانية بفعل تركيزها على الأشياء. في حين أن الروائيين الجدد أنفسهم يعتبرون أن ما يركزون عليه هو البحث عن “نقل التجربة الواقعية انطلاقا من التجربة الروائية، وجعل هذه الأخيرة ذات طابع ذاتي من حيث الجوهر، لكنها تعبر عن أشياء موضوعية” (ص: 40-41) من داخل العالم الروائي؛ أي أن الأمر يتعلق بما يشبه المصالحة الخفية بين الذاتي والموضوعي ضمن تركيب العمل الروائي، والتي تحتاج إلى فطنة كبيرة من قبل القارئ والناقد للإلمام بشروطها.
بنزع المركزية الروائية عن الشخصيات، فتحت الرواية الجديدة المجال أمام القارئ ليشارك في تركيب العمل الروائي. وكأن هذا “القارئ الجديد” أضحى ملزما بأن يصبح جزءا من العالم الروائي الذي هو في الأصل ليس عالمه؛ من هنا تأتي خصوصية الرواية الجديدة في كونها تسمح للقارئ بعيش تجارب الآخرين من خلال القراءة دون تجربتها بشكل واقعي. قد يظهر أن الأمر يتعلق بنمط روائي جديد أكثر تعقيدا من الأنماط السابقة، إلا أن الأمر مقبول إلى حد كبير. فالروائي يختلف عن العالم الذي يشرح فكرته أو رؤيته بشكل واضح ومبسط. إنه يكتب بشكل معقد عن واقع هو من حيث المطمح معقد؛ أي أنه يبحث في المجهول عن “ماهية أدبية غير مكتملة في الواقع”.
إذا استعرنا مقولة جون بول سارتر الوجودية في الماهية الإنسانية وطبقنها على العمل الروائي، سنجد أن الرواية الجديدة بحث مستمر عن دلالات ومعاني غير مكتملة ومتحولة بشكل مستمر –حتى في ثنايا العمل الروائي نفسه- بل ومجهولة حتى لدى الروائي نفسه. وكل محاولة للقول بانبثاق قبلي لماهية العمل الروائي في علاقته بالواقع الاجتماعي والاقتصادي أو عن معرفة قبلية للروائي بالشروط الموضوعية لإنتاج الدلالات والمعاني الواقعية لعمله هي “وهم” لا قيمة له ضمن نسق الرواية الجديدة. بطيعة الحال، يمكن للسوسيولوجي أو الأنثروبولوجي أن يتلمس دلالات اجتماعية وثقافية من العمل الروائي، لكنها ستظل مفارقة من جديد لتمثل الروائي لعمله الإبداعي. نتيجة لذلك، تصبح الحيرة، الدهشة، الغموض والتعقيد الذي تحمله الرواية الجديدة جزءا أساسا من كونها “كتابة عن الحاضر تنطلق من لاشيء، بحيث ينتفي ما قبل النص باعتبار النص بحثا عن شيء ما، لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة” (ص: 48).
فيما يخص قضية الالتزام ضمن خطاب الرواية الجديدة، ورغم طبيعتها الواقعية، فمن الواجب الفصل بين التزام الروائي والتزام العمل الروائي. فالروائي كـ”فرد” (ضمن بينة المجتمع) حامل لمواقفه المنظمة لمواقعه ضمن النسق الاجتماعي القائم، مثله مثل أي فاعل أخر، إلا أن الأثر الروائي الذي يخلق من خلاله الواقع الاجتماعي ملتزم بالشروط الموضوعية التي تنتجها “حرفة الكتابة” (في تماهي مع العالم في علاقته بموضوع بحثه ضمن حقل العلوم) وليس مطالبا بجعل الرواية نفسها حقلا للصراع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، وإنما على القارئ والناقد موقعة هذا الأثر ضمن نسيج الواقع الاجتماعي المتحول.
تسعفنا سوسيولوجيا الأدب (وسوسيولوجيا الرواية كما صاغها لوسيان غولدمان) في فهم الارتباط الحاصل بين التحولات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع وتطور الشكل الروائي الجديد. فتراجع مكانة الشخصية لصالح الأشياء والبنيات في الأعمال الجديدة هو بالضرورة تعبير عن تراجع مكانة الإنسان في العالم وهيمنة الفعل الاقتصادي على الفعل الاجتماعي. وإذا كانت المجتمعات الغربية (والبشرية بصفة عامة) قد انخرطت خلال القرن الماضي في سيرورة عميقة من “التشيؤ والاقتصاد الليبرالي، فقد رافق ذلك شكلان روائيان: ذوبان الشخصية الروائية وظهور عالم الأشياء المشيأ” (ص: 66-67).
يبدو أن قوة الرواية الجديدة مستمدة من واقعيتها ومن خلال الرهان الخفي على التماثل بين البنية الروائية والبنية الاجتماعية والاقتصادية، من حيث النظرة إلى الذات والموضوع، و”موت الإنسان” في ظل هيمنة قوانين السوق الذي يمثل فقدان الشخصية الروائية لتأثيرها وقوتها الكلاسيكية تمثيلا واقعيا له. لقد أصبحنا أمام “حكاية [رواية] بدون موضوع لعالم بدون حكاية” (ص: 98)، عالم فقد فيه الإنسان مركزيته لصالح الفعل الاقتصادي الذي نجح في تسليع القيم الإنسانية كما الفعاليات الأدبية والإبداعية في عالم اليوم.
يسمح كتاب “الرواية الجديدة والواقع” بتسليط الضوء على الشروط الموضوعية المختلفة لتطور نمط روائي جديد في خضم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي شهدها العالم خلال القرن الماضي، ويعلي من صوت النقاش والحوار البناء بين الروائيين والنقاد وعلماء الاجتماع ويمكن القارئ العربي من تكوين فكرة أولية حول تاريخ تطور الرواية الجديدة وإدراك سياق التغيرات والتحولات التي يعرفها جنس الرواية في العالم العربي خلال العقدين الماضيين. كما يظل لزاما الإشارة إلى أن التزام الروائيين الجدد بأصالة حرفة الكتابة، البحث في المجهول، تطوير التجريب، المصالحة بين الذاتي والموضوعي… هو بالضرورة التزام بالتكيف المنهجي والنظري والأسلوبي مع تحولات الواقع الإنساني؛ كما كان الحال مع الأنماط الروائية السابقة، لأن تاريخ الرواية لا ينفصل عن المجتمع والاقتصاد في تعقيدهما وتركيبهما المستمر.
نقلا عن ضفة ثالثة