بسببٍ من معالجتها الفنية وحبكتها، أحدثت هذه القصّة في نفسي أثراً بالغاً. كانت بمثابة مدرسةٍ علّمتنا كيفية كتابة القصة القصيرة ومعالجة الأحداث وتطوُّر الشخصيات لنبني عالماً من السحر والقسوة والقمع، بلغةٍ مكثّفةٍ وصور موحية.
سكنَتنا قصص زكريا تامر (1931)، الذي مرّت قبل أيّام ذكرى ميلاده الثامنة والثمانون، باكراً؛ فقد كانت إحدى قصصه القصيرة مدرجةً ضمن مقرّرات كتاب “الأدب الحديث” في الصفّ الثالث الثانوي؛ وهي عن فتاة تهرب مع شاب فقير، ثم يتزوّجان من دون رضى الأب الذي يُعلّم ابنه الحقد والكراهية، ويأمره بذبح أخته.
بسببٍ من معالجتها الفنية وحبكتها، أحدثت هذه القصّة في نفسي أثراً بالغاً. كانت بمثابة مدرسةٍ علّمتنا كيفية كتابة القصة القصيرة ومعالجة الأحداث وتطوُّر الشخصيات لنبني عالماً من السحر والقسوة والقمع، بلغةٍ مكثّفةٍ وصور موحية.
لاحقاً، وحين بدأتُ في إنشاء مكتبة خاصّةٍ صغيرة؛ كان لا بُدّ أن تكون مجموعاته القصصية، وتحديداً “صهيل الجواد الأبيض” و”دمشق الحرائق”، من أولى الكتب التي تزيّنت بها رفوفها.
مارَس الكاتب السوري، الذي وُلد في حيّ البحصة الدمشقي، عدّة مهن، قبل أن يتوجّه إلى القصّة القصيرة؛ تجربةٌ يُلخّصها في قوله: “كتبتُ أوّل قصة عام 1958، وما زلت على قيد الحياة، ولا أدري متى سأموت، وقد عشتُ دائماً كأني جثّة قد قذفت بها طائرة في فراغ لا أرض له، وأنا فخور بحياتي الساذجة التي تحتقر المغانم حفاظاً على القليل من الحرية والكبرياء والاستقلال”.
إلى الآن، صدرت له اثنا عشرة مجموعةً قصصية تُرجم عددٌ منها إلى لغات أجنبية مختلفة، كما كتب قصصاً للأطفال. وإلى جانب ذلك، يُعتَبر من أبرز كتّاب المقال الساخر. حاز العديد من الجوائز الأدبية؛ من بينها جائزة “ملتقى القاهرة للقصة” في 2009، والتي قال بعد إعلان فوزه بها: “لا تطلبوا من بائع الخبز أن يبيع الورد”. وقد شبّهته لجنة تحكيمها بـ غي دو موباسان وأنطون تشيكوف، وجاء في تقريرها: “بلغ بفن القصة غايات بالغة الأهمية، منها التعبير عن الشوق للعدل الاجتماعي والتصدّي للقسوة في الإنسان والتسلًّط في السلطة”.
عادةً ما يُقال إن القصّة القصيرة تعيش أزمة. لكنه يرى غير ذلك. بالنسبة إليه فإن “الأدب كلّه لا يلقى اهتماماً من الإعلام العربي، لذلك يظنّ الناس أن الأدب في أزمة”، ويضيف في موضعٍ آخر: “نحن نعيش في عالم فظّ سفّاح لا يمنح البشر سوى البؤس والذلّ والخيبة والهزائم والمجازر الوحشية، ولا يستطيع الأدب الصادق الكتابة عن الياسمين والعطر، بينما الصواريخ تبيد البيوت وتشعل الحرائق، وتمزّق اللحم البشري”.
اعتُبر رئداً للحداثة منذ صدور مجموعته “صهيل الجواد الأبيض” سنة 1960. وإن كانت كتابة زكريا تامر مدرسةً قائمة بذاتها، فإنه لا ينفكّ ينسفها ليعيد بناءها، مستلهماً الواقع في كلّ مرّة، فتجده سوريالياً وتعبيرياً وانطباعياً، يتّخذ عالَمه من الأحلام والكوابيس المرعبة، نازعاً إلى تدمير كلّ ما هو مهترئ وعفن: العنف والدمار والقهر والجوع.
أمّا دمشق التي أحبّها القاص فقد تحوّلت إلى غابة من الأسمنت تجتمع فيها كلّ أشكال القسوة والفقر والجهل. إنها المدينة نفسها التي يصوّرها ملأى بالرايات السود وقبور الموتى والمشانق، ولا سبيل إلى استعادة وهجها الأوّل إلّا بزوال القمع وإشراق الحرية.
لم يَسجن صاحب “النمور في اليوم العاشر” نفسه في إطار محدّد، فكما كان رائداً للقصّة القصيرة السورية وسط خضم التيارات التقليدية، استطاع أن يصمد أمام التيارات التجريبية منذ السبعينيات، وهو ما يُفسّر تواصُل إصدار أعماله في طبعاتٍ جديدة إلى اليوم.
نقلا عن العربي الجديد