فكر وثقافة

الثورات العربية وأعداؤها: قراءة لمستقبل الشرق الأوسط

عدنان حسين أحمد

معظم الرؤساء العرب كانوا يعيشون في أبراج عاجية من نسج خيالهم المريض، فلا غرابة أن يفشلوا في قراءة هذه الثورات العربية وحَراكات الشعوب التي تصوروها مؤامرات خارجية.

يشكِّل كتاب «الثورات العربية وأعداؤها» لشفيق ناظم الغبرا الصادر عن دار «رياض الريس» في بيروت انعطافة مهمة في الصراحة الشديدة، والتحليل العميق، والجرأة النادرة في تسمية الأشياء بمسمياتها من دون الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، وهذا هو دأب الباحثين الخُلّص، والمفكرين الحَذَقة الذين ينهمكون في القضايا المصيرية التي تخص أوطانهم وشعوبهم وحكوماتهم.

قسّم الباحث كتابه إلى اثني عشر فصلاً إضافة إلى الإهداء الذي خصّ به جيل التغيير العربي، الذي أثار أسئلة الحرية، ونادى بمطالب الشعوب، ومقدمة مُقتضَبة جدًا، أكدّ فيها أنّ هذا الكتاب الذي استغرقه عشر سنوات هو محصلة لعدد من المحاضرات والندوات والمقابلات التي تطيل النظر في المشهد العربي، منذ ثورات الربيع العربي وحَراكاته في 2011 حتى الوقت الحاضر، كما ينطوي على رؤية استشرافية تحاول قراءة المستقبل بعين موضوعية قد لا تسرّ غالبية الأنظمة العربية التي تزدري شعوبها وتتعالى عليها متناسية أنّ هذه الشعوب هي التي زرعت بذرة الأمل الجديدة في الأفق العربي المكفهر، مذ أقدمَ محمد بوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجًا على البؤس والمهانة التي يعيشها المواطن التونسي، في ظل النظام الاستبدادي للرئيس زين العابدين بن علي. أطلق هذا الفعل الاحتجاجي الجريء في المواطنين العرب «طاقات حبيسة» وكسر حاجز الخوف من السلطات الأمنية فأصبح جميع الملوك والرؤساء والأمراء في مرمى النقد واللوم والتقريع. فما الذي تفعله الشعوب العربية أمام «قائد» من طراز القذّافي يخاطب شعبه متسائلاً: «مَنْ أنتم؟ جراثيم، جرذان؟» وسواها من التوصيفات المُخجلة التي أطلقها حسني وصدام وبشّار بحق أبناء جلدتهم، أصحاب المصلحة الحقيقية في السلطة والثروة والعيش الكريم. لم تمضِ أيام معدودة على ثورات الربيع العربي في 2011 حتى تحوّل شعار المحتجين والثائرين من إصلاح النظام إلى المطالبة بإسقاطه. وبما أنّ معظم الرؤساء العرب كانوا يعيشون في أبراج عاجية من نسج خيالهم المريض، فلا غرابة أن يفشلوا في قراءة هذه الثورات العربية وحَراكات الشعوب التي تصوروها مؤامرات خارجية، أو أفعال يقوم بها «مُندسّون» خارجون على القانون، أو فئة شبابية ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي أشعلت عود الثُقاب فسبّبت حريقًا هائلاً يصعب إخماده.
 
معظم الرؤساء العرب كانوا يعيشون في أبراج عاجية من نسج خيالهم المريض، فلا غرابة أن يفشلوا في قراءة هذه الثورات العربية وحَراكات الشعوب التي تصوروها مؤامرات خارجية.
 
يعتقد الغبرا أن أسس التمرّد ومنطلقاته في العالم العربي تعود إلى الإقصاء، والتهميش، وغياب العدالة، فبعد الطفرة المالية في سبعينيات القرن الماضي التي رافقها الكثير من الفساد، وسوء الإدارة، وهضم الحقوق والحريات حُرمت المجتمعات العربية من نمو طبقات وسطى صناعية وإنتاجية. كما أن سياسة التوريث تمثل أعلى درجات الاحتقار للمواطن العربي الذي يشعر دائمًا بالخوف والقهر والحرمان، مع أنه أكبر قوة في التاريخ. أما النظام العربي المتغطرس فلم يفهم طبيعة هذه الثورات والحراكات التي تهدف إلى «تطويع الدولة العربية وتحويلها من جهاز متعالٍ يتخصص في القمع إلى جهاز يخدم المجتمع ويعكس تطلعاته». يؤكد الغبرا، وهو الباحث المتخصص في العلوم السياسية، أنّ الحرية هي أساس المجتمع ومنطلق التعبير، كما يصفها بـ«فن التمرّد» والقبول بمخالفة الرأي السائد، وينتقد بشدة صدام حسين لأنه أعدم خصومة من البعثيين واليساريين والإسلاميين. وعلى الرغم من بنائه لخامس أقوى جيش في العالم، إلاّ أنه انتهى نهاية مأساوية لم يتعظ منها بقية الملوك والرؤساء العرب، وعابَ الباحث على الأنظمة العربية أن تزجّ بالمعارضين لها والمختلفين معها في السجون، كما فعلت مع سعدالدين إبراهيم، وأيمن نور، أو أن تقتلهم وتمثل بجثثهم كما فعلت مع السيد محمد باقر الصدر وجمال خاشقجي، وخالد سعيد وآخرين لا يسع المجال لذكرهم.
يرصد الباحث الثورة السورية التي اندلعت في بداية مارس/ آذار 2011 وكيف تعامل معها بشّار الأسد بقسوة مفرطة فاقت وحشية والده الذي نفذّ مجزرة حماة في 2 فبراير/شباط 1982 التي راح ضحيتها أكثر من 35 ألف شهيد حين قصفها بمختلف الأسلحة الثقيلة بحجة القضاء على الإخوان المسلمين. ومع أنّ بشّار وعد بالإصلاحات لكنه، كالعادة لم يفِ بوعده، بل حوّل الاقتصاد الوطني والقطّاع العام لمصلحة المتنفذين الجُدد وصرنا نسمع برجل الأعمال رامي مخلوف وغيره من أصحاب رؤوس الأموال المنهوبة من ثروات الشعب السوري ومن برامج الخصخصة التي عمّقت الأزمات، وزادت الشعب إفقارًا. وبما أنّ بشّار الأسد لا يختلف عن زين العابدين وصدام والقذافي في ديكتاتوريته فليس من الغريب أن يفشل في قراءة الأوضاع السياسية المحيطة به لأنه يعيش في خانق ضبابي ضيّق يمنعه من رؤية الحقائق بوضوح بعكس الأنظمة الديمقراطية التي تستشعر رياح التغيير مبكرًا. يتوصل الغبرا إلى أن بشار قد فعل ما لم يفعله أي ديكتاتور عربي فقد قُتل في ثورة الشعب السوري قرابة 400 ألف مواطن، وفاق عدد جرحاها المليون، كما هُجّر نصف عدد السكّان، وغادرت الطبقة الوسطى البلاد، وارتفعت البطالة إلى 50٪ ولا أحد يعرف على وجه التحديد كيف ستنتهي الحرب، ويُعاد بناء المدن المدمرة لكن الباحث يؤكد على وجوب محاكمة كل مَنْ أطلق النار على المتظاهرين، وضرورة تحويل المرجعية السياسية في سوريا إلى الشعب وليس إلى النظام أو الرئيس أو الحزب الذين سقطت شرعيتهم جميعًا.
 
يمكن اختصار ما حدث في مصر عام 2011 بالثورة التي أطاحت مبارك ووأدت فكرة التوريث، والثورة المضادة التي زجّت بالرئيس المُنتخَب محمد مرسي وحكومة الإخوان في السجون.
 
يمكن اختصار ما حدث في مصر عام 2011 بالثورة التي أطاحت مبارك ووأدت فكرة التوريث، والثورة المضادة التي زجّت بالرئيس المُنتخَب محمد مرسي وحكومة الإخوان في السجون وحاكمتهم بتهم متعددة تبدأ بالتخريب وتنتهي بالخيانة العُظمى. وقد وصف الباحث ثورة يناير/كانون الثاني بالمعبرة عن حلم المصريين والعرب لكنها انتهت في خاتمة المطاف بعودة العسكر والحرس القديم الذي ضيّقَ الخناق على الحريات، وسجنَ المرشحين الذين تنافسوا في الانتخابات الرئاسية مثل، الفريق أحمد شفيق، والفريق سامي عنان ومع ذلك فإن مصر تظل مفتوحة على أكثر من احتمال يعد بالتغيير والإصلاح، سواء من الجيش أو من الشعب أو من الاثنين معًا آخذين بنظر الاعتبار أن الجيش في تونس ومصر قد حسم أمره ووقف إلى جانب المتظاهرين، أما الجيش في الخليج فقد آمن بشرعية الأُسر الحاكمة، في ما انشق في سوريا وليبيا واليمن وانضوى تحت خيمة الجيوش الحرة التي قاتلت جيوش الأنظمة المستبدة التي فتكت بشعوبها، ودمرت بناها التحتية.
يعتقد الباحث أن حرب اليمن ستكون مقدمة لحروب أخرى، وأن العنف سيولِّد عنفًا مضادًا في عموم الدول العربية. أما أزمة قطر وحصارها فقد كشفت عن النوايا الخطيرة لمحاولة التدخل العسكري السعودي في قطر الذي تداركه أمير الكويت وجنّب البيت الخليجي تداعياته الخطيرة. لم يقتنع الباحث بالشروط المجحفة التي وضعتها دول الحصار على الدوحة، ودعا الباحث إلى الانفتاح السياسي والإعلامي والديمقراطي. وخلُص إلى القول بأن العالم العربي يشتمل على دول ولاء ويفتقر إلى دول الكفاءة والخبرة. أما علاج الأنظمة الديكتاتورية فلا يتم إلاّ بالحريات الكاملة، وبناء الديمقراطيات الناجزة التي تجعل القوى الأمنية والجيوش خاضعة لقادة مدنيين منتخَبين. وفي الختام نستطيع القول باطمئنان كبير أن هذا الكتاب يُعد علامة فارقة في استجلاء الرؤية الفكرية للثورات العربية واستشراف النتائج التي ستُسفر عنها في المقبل من الأعوام.
نقلا عن القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى