السنة الآن تخرج من نفسها ومن البيت، تغادر المرآة وتغدر بنا إذ تتركنا عالقين فيها وتذهب، تعود إلى أصلها حيث كانت جذعا لشجرة الغموض وفراشاة لأسنان الأساطير والعدم.
السنة الآن تخرج من نفسها ومن البيت، تغادر المرآة وتغدر بنا إذ تتركنا عالقين فيها وتذهب، تعود إلى أصلها حيث كانت جذعا لشجرة الغموض وفراشاة لأسنان الأساطير والعدم.
كل السنوات التي مضت، مضت بلا رأس، وهي الآن تجلس على ذيلها تحت الرماد، تضطجع مع الموتى والنسيان، وكلما لوّحنا لها بذكرياتنا من بعيد، أخرجت لنا لسانها من تحتها، وأشارت بالواسطة، كما يجب أن نفعل حين يمر بنا موكب ضخم لمسؤول بلا شرف.
عجولة سنوات القرن الواحد والعشرين، لكنني أعرف سنة لا تنتمني لزمنها!
أعرف سنة معتمة وقديمة كالحزن، لا تزال تعيش بيننا، وتقمط أيامنا بالوهم، سنة محاق، بلا ملامح ولا روح، تنتهز غيابنا وتنط كأفعى، تلتوي حول عنق الوقت وتخنقنا، وكلما اعترض عليها أمل وبقاء، أخرجت من بين لحيتها جثة ومأتم و أعلنت الحرب..
لقد أخطأت الطريق إلى أصلها، ودخلت اليمن، اليمن التي لم تحتفظ من السنوات التليدة إلا بالتحف والنقوش والشعراء.
عموما، بصقة ولعنات.. حذاء وحجر في فم الماضي، وأعبر إلى الغد كأغنية وحلم.
عام جديد يمد يده لمصافحتي، يفتح لي أبوابا ونوافذ تطل على البياض، و يُمنّيني بالاحتمالات والمطر، وياليته يأخذ البلاد إلى السلام، وإلى ألوان قزح.
ككل مسافر بلا لسان ولا أسئلة ، وكأي واحد منكم، أقف الآن بين قطارين في الهواء، وعليّ أن أغادر أحدهما، في حقائب أيامي أمتعة وعثرات وضغينة وشك كثير وخيبات أكثر، وفي قلبي شجرة وأغنية وقمر وملعب كرة قدم، ولقد اخترت قلبي وتخففت من كل شيء، كل شيء.
في المحطة القادمة، تستقبل الأمنيات أهلها، تأخذهم إلى زرقة السماء ومواسم الندى والشروق. أما الذين بلا أمنيات، فسوف يعيشون مع ماضيهم كما فعلت تلك السنة الصفراء التي أخطأت الطريق ودخلت اليمن.
المهم؛ هل قلت لكم إن بعض الذكريات جثث؟! فتشوا في ذكرياتكم وستجدون جثثا كثيرة تستحق الدفن أو الحرق.. جثثا متفسخة وسائحة.. لمواقف وتولهات وكلاب نافقة، ولصداقات ومواعيد وندوب وكتب وعلامات ترقيم.
لا تزحموا المقابر بقتلى الحرب.. اتركوا قبورا للذكريات العفنة وهياكل الجوعى ولفائض المتخمين وقصائد المديح.
أما عني؛ فبلادي كلها مقبرة لأبنائها لا للغزاة. ومع ذلك لن أتجشم عناء الحفر و وحشة الأخاديد وفي يدي عود ثقاب.
تبدو النار أكثر رحمة بالجثث من الحفر وعذاب القبر، ومع أني لست حاكما عربيا يتقن إشعال الحرائق، لكنني بالأمس أشعلت حريقا هائلا للخلاص.
في النار ندم على طلبات صداقة، مجاملات تافلة، خجل غير مبرر، رسائل جمعة مباركة، شعراء وكتاب يتوهمون أنهم محور الكون.
أنا الكون، وأنا محور الكون، وأنا القصائد الجميلة والكاتب الأكبر، قلها أيها القروي القادم من الريف وعليك غبرة الكادح وفيك تعب الواردات وبك تهيّب المشهورين.
لا تكن مثلي وتخجل من صوتك وصداك ومن سحنة وجهك ولون كلماتك مهما كانت عادية.
أتذكر؛ عندما تعرفت على مواقع الحروف في الكيبورد، ودخلت مواقع التواصل الإجتماعي، أنني كنت مبلودا ومشدوها بالأسماء، لدرجة أفكر فيها أن أتصور مع الإشعار حين ينبهني أن شاعرا أو كاتبا أو سياسيا قبل صداقتي أو طلبها، وعندما عرفتهم عرفت قيمة أن تكون قرويا بلا تضغنات ولا أنانية ولا نظرات أو نظارات سوداء.
مرة؛ في رمضان، كنت ضيفا مع كتاب و سياسيين وشاعر سابق، في منتصف الليل اقترح أحدهم أن نقرأ شعرا، أحسست بالاختناق من الحرج، وبعد أن استمعوا لقصيدة الشاعر الكبير الذي لا أذكر من قصيدته ما بعد بعد الحداثية شيئا، إلا أنه كرر كلمة الحرب فيها أربعين مرة وكان فخورا بها، كما كنت أنا خجولا من قصيدتي التقليدية التي قدمتها بصوت خافت ومتردد وعقبت عليها -حين لم يصفق لي ولها أحد كما صفقوا لشهرته وصوته وعمقه وغموضه- بالقول إنها محاولة عادية، وهي في الحقيقة جميلة حتى وإن لم تعجب الشاعر الكبير والذي أكن له الاحترام والحب. الشاهد من هذه القصة السخيفة، أنها قصة سخيفة.
مرة أخرى، شاعر حاصل على جائزة، شارك أبياتا مجهولة من صفحة إحداهن، ومع المشاركة سأل بدهشة و إعجاب واستغراب، لمن هذه الأبيات العظيمة! وعندما أشار المعلقون إلى شاعرها الذي هو أنا، سحب الأخ الشاعر دهشته وحذف المنشور. ولا شاهد من هذه القصة مالم تكن ثقتك بنفسك أكبر من كل كبير.
أقول ذلك، وأنا أضع علامات الترقيم كيفما اتفق، وأرى شعراء وكتاب، يمنيين وعربا، كبارا وصغارا، يحترقون مع أوراقهم في ناري، نار اللامبالاة بالورم. أحرقتهم لكي لا أعود إلى قرويتي حين أراهم وأتملقهم شهادة حسن إبداع أو صورة سيلفي.
إنني أعبر إلى الغد، فخور بعاديّتي وبساطتي، وبثقة في أن القروي الذي خرج على الرئيس بلا توجسات من العسس والرصاص والمثقفين، لن يتملق لمنفوخ أو يصفق لتافه أو يتصالح مع باطل أو حتى ينتمي لاتحاد الأدباء والكتاب.
إنني أكتب كي أتنفس، لا أدري من قال ذلك، ولا من قال : لا أحد يكتب مجانا سوى شخص أبله، ولا حتى الذي قال إن الفرق بين شاعر جيد و شاعر رديء هو الحظ. ومع ذلك أكتب مجانا وبلا حظ ولا اكتراث أو إملاءات من أحد. أكتب.. أتنفس، وأدخل سنة جديدة وأنا أكتب ” لا في وجه من قالوا نعم”.
في العام الجديد، لن يتغير موقفي من الانقلاب وإيران، و لا من السعودية والإمارات وقطر رغم إغراءات الجوائز وبهرج المهرجانات، ولن أقول أنصار الله ولا التحالف السعودي الإماراتي و أنا أعلم أن الله بلا أنصار و أن طائرات الكويت والأردن وقطر ومصر والبحرين كلها تحالفت على وطني ونهشت جثتي، كما ولن أقرأ كتب الأحياء ما دام الموتى يؤنسون عقولنا بلا منٍّ و استكثار، ولن يدخل ناري صديقي المقرب الذي فقدت الاتصال به منذ اشتغل مع منظمة دولية، ولا محمود ياسين كاستثناء من بين كل الكتاب المتعالين إذ وحده يلمس أغصانا في الأقاصي والأعماق و يدهش بالعادية و اليومي و التوله والشغف، ولن أكتب لن مرة أخرى.
وفي العام الجديد، سوف أعمل بكل جهدي على أن أهدر أيامه ككل الأعوام، وأقع في الأخطاء الإملائية وفي الحب.