انتهيت للتو من قراءة واحد من أهم كتب المفكر الباكستاني فضل الرحمن، والذي تأخرت ترجمته كثيرا للأسف، هذا المفكر الكبير يقدمه لنا المفكر العراقي عبدالجبار الرفاعي ضمن مشروعه في نشر الوعي الفلسفي الإسلامي. انتهيت للتو من قراءة واحد من أهم كتب المفكر الباكستاني فضل الرحمن، والذي تأخرت ترجمته كثيرا للأسف، هذا المفكر الكبير يقدمه لنا المفكر العراقي عبدالجبار الرفاعي ضمن مشروعه في نشر الوعي الفلسفي الإسلامي.. كتاب “الإسلام” تقريبا هو أول كتاب يترجم لهذا المفكر الكبير رغم أنه ألفه في عام 1965، وأنا أستغرب كيف ظل هذا الكتاب مطمورا كل هذه العقود دون أن يصل للقارئ العربي؟! ولماذا أصلا يحجب عن القارئ العربي مفكر بحجم فضل الرحمن.. ماذا لو أن هذا الخط التجديدي كتب له النجاح في عالمنا الإسلامي وصار هو السائد؟ ألم نكن أحسن حالا مما نعيشه اليوم من تخلف وتراجع حضاري.. كيف أجهضت حركة التجديد والنهضة؟ إننا سنعض على أصابع الندم كلما تأخرنا يوما عن حركة التجديد والتحديث وكلما وقفنا صدا مانعا ضدها وضد مفكريها.
للأسف ما زالت الدراسات الإسلامية في المحيط العربي لا تعرف إلا القليل عن مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، تلك البلاد التي أنجبت ولي الله الدهلوي (ت1762م) والذي يعتبره بعض الباحثين بأنه مجدد القرن الثامن عشر، وأنجبت محمد إقبال المفكر الفيلسوف الشاعر، ها هي تقدم مفكرا آخر اسمه فضل الرحمن.
في التعريف بفضل الرحمن شدني هذا الموقف الذي يعبر عن واحدة من أخلاق هذا الباحث النبيل، لقد كان فضل الرحمن يتعامل بأخلاق رفيعة مع أشرس خصمين له، تلقا منهما ضربات مؤلمة في باكستان، يكتب عنهما بثناء في تقديمه لكتابه المهم “الإسلام وضرورة التحديث”: “أود أن أذكر اثنين من المثقفين الباكستانيين، أبو الأعلى المودودي واشتياق حسني قريشي، وقد رحلا عن عالمنا سبتمبر 1979 ويناير 1981. ولقد كان رحيلهما خسارة للإسلام، رغم انتقادي القاسي والمبرر كل التبرير كما أعتقد لهما”.. لقد كانت مواقف المودودي قاسية جدا تجاهه حتى قام أتباع المودودي على تأليب الشارع عليه وتجييش الجمهور الباكستاني ضده، وقد أدى ذلك إلى حد حدوث سلسلة من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات انتهت بتهديده بالقتل، وتخلى الرئيس أيوب خان عنه في تلك اللحظة الحرجة، فاضطر فضل الرحمن أخيرا للاستقالة من رئاسة المعهد الذي أسسه والهجرة إلى الولايات المتحدة.
يقول عن نفسه: كان لوالدتي ووالدي تأثير حاسم في تكوين طباعي ومعتقداتي الأولى، فقد تعلمت من والدتي فضائل الصدق والرحمة والثبات، وقبل ذلك الحب، وكان والدي باحثا دينيا مطلعا على الفكر الإسلامي التقليدي، على النقيض من معظم الباحثين الإسلاميين التقليديين في ذلك الوقت، الذين كانوا يعتبرون التعليم الحديث هو سم للإيمان والأخلاق على السواء، كان والدا مقتنعا بأنه ينبغي للإسلام التعامل مع الحداثة بأنها تحد وفرصة في الوقت نفسه، وما زلت أشاطر والدي الرأي نفسيه حتى يومنا هذا”.
الكتاب في صورة بانورامية سريعة يستعرض التراث الإسلامي بشكل مركز، يغطي أربعة عشر قرنا من التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية، بطريقة تحليلية تزاوج بين العرض الموضوعي والتمثل التأويلي، يحلل فيها الكاتب القرآن والنبي والوحي النبوي، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، ومفهوم الشريعة، والدين، والحركة الفلسفية، والتصوف وطرقه وتاريخه، والفرق الإسلامية وتطورها، والتربية والتعليم ومدارسها في الإسلام، وحركة الإصلاح ما قبل الحداثي، والحركات الإصلاحية الحداثية، والتراث والمنظورات المستقبلية، كل ذلك من منظور عقلاني يتأمل ماضي الإسلام وحاضره ويرصد مستقبله توقعا واستشرافا.
يسعى فضل الرحمن في مختلف كتاباته إلى أن يحيل إلى القرآن ويتخذه مرجعية في تفكيره واجتهاده، وهو في ذلك يحذر من أن يقع في أسر رؤية المفسرين، أو يغرق في آثارهم الغزيرة، فهو يرى “أن التفاسير بطبيعة منهجها لا يمكن أن تؤدي إلى تبصر كامل بالقرآن الكريم، وإعطاء نظرة متماسكة عن العالم الغني الذي يزخر به”، وهكذا سنجد في أعمال هذا المفكر أنها تتكئ على القرآن وتتخذه دليلا في ما ترنو إليه.. ويؤكد من خلالها أن الإسلام لا بد أن يتموضع في سياقه الأخلاقي، لأن القرآن يؤكد أن رسالته تتلخص في الرحمة والأخلاق (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ويرى أنه لا بد أن تكون هناك نظرية في الأخلاق على أساس القرآن، لأن المرء لن يتمكن إطلاقا من أن ينصف الشريعة الإسلامية من دون مذهب أخلاقي مصاغ بصورة واضحة لا غموض فيها. فالمشرعون المسلمون –بحسب رأيه- لم يفرقوا بوضوح بين ما هو فقهي وما هو أخلاقي، وكانت نتائج هذا الاغفال اختلاط القانون بالقيم الأخلاقية الحية.. ويرى أن المؤلفات الإسلامية في الأخلاق لا تقوم مباشرة على القرآن وإنما تقوم على الفلسفة اليونانية والتراث الفارسي والإلهيات الصوفية، وهذه المرجعيات لا تمثل جوهر القرآن، على الرغم من أنها أدمجت في تعاليمه، وحتى آداب الحديث يجب أن تقارن نصوصها بالقرآن.. والحق أن مؤلفا في الأخلاق إن وجد فإنه سيمثل ماهية القرآن وجوهره، وذلك لأن القرآن من حيث المبدأ تعليم أخلاقي وليس كتابا في الفقه. ويرى أن الفقهاء غالبا ما كانوا يذهبون بعيدا في تقويل العبارات البلاغية أو الأخلاقية في القرآن إلى عبارات فقهية، في حين لم يذهبوا بما فيه الكفاية إلى اشتقاق الأخلاق الفقهية من آيات ذات طبيعة فقهية واضحة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.