كتابات خاصة

كم عدد الثيران؟

حسن عبدالوارث

اختارت جريدة أمريكية عبارة تتصدَّر بها. تقول العبارة: “جاء ترامب أولاً للقبض على المكسيكيين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مكسيكياً. ثم جاء ترامب ثانيةً للقبض على المسلمين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مسلماً. وعندما جاء ترامب ليقبض عليَّ، لم يبقَ أحد ليعترض!”.

هل قرأتَ حكاية الثيران الثلاثة في صفوف دراستك الأولى؟

بالتأكيد قرأتَها حينها.
هل استفدتَ من الدرس أو العبرة فيها؟
أنا استفدتُ، ولا أدري بشأنك.
هل تتذكر -على الأقل- ألوان تلك الثيران؟
انها الألوان ذاتها التي يحملها علم هذا البلد: الأحمر، الأبيض والأسود.
أعرفُ أنك ستسألني باستغراب: لماذا أُعيد ذاكرتك الى تلك الحكاية؟
السبب بسيط يا صاحبي، لأن الحكاية القديمة لا تزال مستمرة الحدوث حتى هذه اللحظة!

اختارت جريدة أمريكية عبارة تتصدَّر بها. تقول العبارة: “جاء ترامب أولاً للقبض على المكسيكيين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مكسيكياً. ثم جاء ترامب ثانيةً للقبض على المسلمين، فلم أعترض، لأنني لم أكن مسلماً. وعندما جاء ترامب ليقبض عليَّ، لم يبقَ أحد ليعترض!”.
وكثيرون غيري وغيرك بلا شك سيعرفون أن هذه العبارة هي تحوير لقصيدة ذائعة الصيت كتبها ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي الشاعر والقس الألماني مارتن نيمولر في مواجهته النازية والنازيين. تقول القصيدة:
(في البدء ، أقتادوا الشيوعيين
لكنني لم أهتم،
فلم أكن شيوعياً.
ثم أعتقلوا الاشتراكيين
ولم أرفع صوتي،
لأنني لست اشتراكياً.
ثم جاؤوا الى أعضاء النقابات
ولم أهتم قط،
لأنني لم أكن نقابياً.
ثم أقتادوا اليهود
ولم أصرخ،
فأنا لست يهودياً.
ثم جاؤوا إليَّ..
ولكن لم يكن قد بقيَ أحد
ليرفع صوته لأجلي).

منذ أن عرفنا أنفسنا -وتحديداً طوال امتداد تاريخنا الحديث والمعاصر- ونحن نضع رؤوسنا في عميق الرمال، كلما رأينا الأنظمة التي تعاقبت على حكم هذا البلد تقمع أهل الرأي والموقف والمبدأ -من الأنصار والخصوم على السواء- وتنكّل بهم ما بين قتل وسجن وتعذيب ومطاردة وغيرها من أشكال الاضطهاد وألوان الامتهان، بل حتى من لم يكن له رأي ولا موقف -وربما لا مبدأ أيضاً- لم يكن يسلم على الاطلاق!
وكنا – وما زلنا- نرى كل هذا يحدث ملء أبصارنا وأسماعنا، فنلزم الصمت. نرى كل هذا فلا ننبس ببنت شفة. نرى كل هذا فندير وجوهنا إلى الجهة الأخرى. نظل نزعم أننا لم نرَ شيئاً قط، ولم ندرِ البتة بما يحدث. ولا نصرخ إلاَّ في اللحظة التي يطالنا فيها هذا القمع وذلك التنكيل، أو يطال أهلنا أو رفاقنا!
يُقمَع اليساريون، فيصمت القوميون.. وإذا قُمع القوميون، سكت الاسلاميون.. وإذا قُمع الاسلاميون، يتعامى الليبراليون.. وهكذا دواليك.. تحضر الدجاجة، فيغيب الديك!
وهو ما يُعَدّ ترجمة واقعية فصيحة لقصيدة نيمولر.. كما أنه تفسير بسيط ومباشر لحكاية الثيران الثلاثة التي -وكما أسلفت- لا تزال مستمرة الحدوث حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، فيما يتم اعتقال مناضلين وناشطين من شباب بلدي في مجالات الرأي السياسي والدفاع عن الحقوق والحريات في صنعاء وعدن ومدن وقرى يمنية عدة ، غير أنني أستمع الى تشكيلة من أغاني فيروز والساهر والآنسي وفي يدي كوب ممتلىء بالنيسكافيه!
أعداد الضحايا تزداد في كل لحظة تستعر فيها أوار هذه الحرب الغاشمة، وحجم المأساة يكبر ويتضخم ويتعاظم.. أما الثيران الثلاثة فلم يعودوا بالعدد نفسه، بل بأعداد شتى لم أعد أدري مقدارها بالضبط. كل ما أدريه أنني وأنت  وهي من بينها.. أنا الأحمر، أنت الأسود، وهي -يااااااي- الأبيض!
أعداد الضحايا تزداد في كل لحظة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى