تأسيساً على هذه الحقيقة كان لزاماً على هذه النخبة أن تضطلع بدور ريادي وقيادي في مسار التنوير والنضال الواعي تجاه أكثر القضايا الوطنية حيويةً ومصيريةً وفي مقدمتها: وحدة اليمن. كانت طليعة المثقفين اليمنيين المتمثلة في نخبة «الأنتلجنسيا» -والتي تضم الأدباء والكُتَّاب- من أعلى الفئات الاجتماعية صوتاً في مسرح الأحداث السياسية والفكرية اثر قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بعرش الكهنوت القروسطي حتى الاستقلال وانهاء الاحتلال.
وتأسيساً على هذه الحقيقة كان لزاماً على هذه النخبة أن تضطلع بدور ريادي وقيادي في مسار التنوير والنضال الواعي تجاه أكثر القضايا الوطنية حيويةً ومصيريةً وفي مقدمتها: وحدة اليمن.
لذا تنادى هؤلاء في مطلع السبعينات (أكتوبر 1970) للالتئام ضمن إطار علني اتّسم بصفة فكرية وإبداعية أكثر منها سياسية وإنْ كان الصوت السياسي بدا مرتفع النبرة في خطاب اتحاد الأدباء والكُتَّاب اليمنيين منذ لحظة إشهاره. ففي ظل التشطير القائم في البلاد التي كانت تاريخياً موحدة، التأمت طليعة مثقفي اليمن يتقدّمهم أبرز أدباء ومبدعي البلاد لإعلان قيام الاتحاد الذي كان أول ضربة معول في تمثال التشطير والتشرذم الذي تعانيه اليمن منذ الاحتلال العثماني ثم الحكم الإمامي في شمالها والاستعمار البريطاني في جنوبها، وانتخب شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني رئيساً لهذا الكيان الذي توحّد قبل وحدة البلاد بعقدين من الزمان.
وقد كانت هذه النخبة تعكس في هوياتها الفكرية وانتماءاتها السياسية كل أطياف التنوع السياسي والفكري في المجتمع اليمني (يسارية وإسلامية وقومية وليبرالية) عدا الجهوية الجغرافية التي شملت معظم المناطق في جنوب اليمن وشمالها. ولم يَبْدُ قط أن طيفاً سياسياً أو فكرياً أو جهوياً قد غلب على سواه، فقد جاء هذا الكيان وطنياً وحدوياً بكل معنى الكلمة، وبما يُشرّف نخبة ثقافية طليعية حقّة استطاعت أن تحافظ على التنوع والتعدد في بوتقة واحدة.
وقد تبنّى الاتحاد منذ اللحظة الأولى لإشهاره دوراً تنويرياً وتثويرياً جاداً لتحقيق وحدة البلاد على أسس سلمية وديمقراطية، وقد كان الشعار الرئيس الذي اختارته طليعة المثقفين اليمنيين لكيانهم الجديد: «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة» وهو الشعار الذي ظل ثابتاً لا يتبدّل بتوالي المؤتمرات التي عقدها الاتحاد على مدى عقدين كاملين حتى أشرق يوم تحقيق الوحدة الذي حلم به وناضل من أجله خيرة مثقفي اليمن وفي المقدمة أدباؤها وكُتَّابها.
كان توحُّد الأدباء والكُتَّاب اليمنيين -يومها- على أساس وطني شامل لا يعترف بتشطير البلاد ومؤسساتها، حدثاً وطنياً وقومياً أشادت به الأوساط الفكرية والثقافية العربية، فقد كان تحدّياً ناضجاً بالضدّ من واقع التشطير المُخزي الذي تشهده اليمن في ظل دولتين قائمتين في صنعاء وعدن، وهو الوضع الذي أفضى إلى قلاقل ونزاعات بلغت حدّ الاحتراب الدامي مرتين في 1972 و1979. وقد تسبّب هذا الحدث في الإحراج الشديد لسلطتي الشطرين، لكنه في الوقت نفسه شكَّل دافعاً قوياً لهما للبدء بمفاوضات مباشرة وإجراءات جادة في المضمار الوحدوي، فأُعلِن عن تشكيل «لجان الوحدة» التي أخذت على عاتقها تدشين ومواصلة الخطوات الإجرائية التشريعية والتنظيمية والتنفيذية والفنية لتوحيد مؤسسات وقوانين الدولتين، ولم يَفُتْ سلطتا صنعاء وعدن يومها أن تُعيّن أبرز الكوادر الخبيرة في هذه اللجان من قيادات وأعضاء اتحاد الأدباء والكُتَّاب الموحّد، فكانت هذه اللفتة اعترافاً واضحاً بالدور الوحدوي الطليعي للنخبة المثقفة اليمنية.
وإثر توحيد اليمن في العام 1990 كانت هذه الفئة أكثر فئات المجتمع مشاركة في عملية تأسيس وبناء الدولة الجديدة على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال. وقد تجلّى ذلك في طبيعة المشاريع والمؤسسات السياسية والثقافية التي قامت أو أُديرت على أيدي رموزها أو بمبادرات منها خلال تلك المرحلة، وكانت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والوسائط الإعلامية والمنابر الفكرية والثقافية خير حامل لتلك المشاريع في الساحة اليمنية، والتي هدفت إلى صون الحريات والحقوق الخاصة والعامة والمكانة الاجتماعية والسياسية للمرأة وتنمية العملية الديمقراطية، وهي من القضايا التي كان بعضها منتهكاً في أحد الشطرين والبعض الآخر في كليهما طوال فترة التشطير.
كان لابدّ من هذا السرد برأيي للتأكيد على الهوية الوطنية الوحدوية لأدباء اليمن منذ وقت مبكر، وبالتالي الهوية الوطنية الوحدوية لاتحادهم، اثر الانتكاسة التي شهدناها مؤخراً باشهار عدد من الأدباء انفصالاً (تحت مسمى شطري) عن الاتحاد التاريخي لأدباء اليمن .. وهي الخطوة التي تتقاطع جذرياً مع نضالات المثقفين اليمنيين وفي طليعتهم الأدباء والكُتَّاب، بل نضالات كل شرائح وفئات المجتمع، من أجل استقلال وبناء ووحدة البلاد.
الى جانب ذلك، فان قطاعاً كبيراً من أهل الأدب والكتابة اليوم هم من الأجيال التي ولدت ونشأت من دون أن تُعايش عن قرب كل الاعتمالات التي شهدها البلد وشهدتها شريحة المثقفين والأدباء في مسار التعاطي الواقعي والمباشر مع القضية الوطنية الأم وهي قضية الوحدة، ناهيك عن مرحلة التحرر من ربقة الامامة والاستعمار.
والحق أن الحرب الطاحنة والمستعرة اليوم ومنذ أربعة أعوام قد أفرزت جملة من المآسي والويلات على الأصعدة كافة، غير أن انسلاخ طائفة من المثقفين والأدباء عن الكينونة الوطنية الموحدة هو بحد ذاته مأساة تعدل كل مآسي هذه الحرب، لكونها خيانة لنضالات وتضحيات أجيال بكاملها على مدى حقب وأسفار يمانية عديدة وتليدة، تتجاوز فئة المثقفين وشريحة الأدباء الى كل النسيج الوطني.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.