كتابات خاصة

لعنة قابيل

عائشة الصلاحي

ذلك أنه حين يتملكك شيءٌ قويٌ يدفعك للحياة.. رسالة ما.. هدف نابض.. فإنك تندفع محطماً كل الأبواب الموصدة أمامك.. فالحماسة وقوة انطلاقتك يجعلان فتح الباب فتحاً هادئاً أمراً غير وارد البته، تصبح في أعماقك فارساً متسلحاً بروح المقاتل الاسطوري لتواجه العالم بكل تحدياته.

في عبارة شهيرة قرر غاندي المراحل التي يمر بها كل من يمتلك حلم عظيم و سامي ليحققه في حياته فيقول: “في البداية يتجاهلونك.. ثم يسخرون منك.. ثم يحاربونك.. ثم تنتصر”!

ذلك أنه حين يتملكك شيءٌ قويٌ يدفعك للحياة.. رسالة ما.. هدف نابض.. فإنك تندفع محطماً كل الأبواب الموصدة أمامك.. فالحماسة وقوة انطلاقتك يجعلان فتح الباب فتحاً هادئاً أمراً غير وارد البته، تصبح في أعماقك فارساً متسلحاً بروح المقاتل الاسطوري لتواجه العالم بكل تحدياته.
نعم، ستقاتل الأحداث المعاكسة والخصوم والظروف ونقاط ضعفك وكل طوارئ مستقبلك، لن تتوقف عن خوض المعارك الواحدة تلو الأخرى، فلديك ما ينتظرك هناك في آخر النفق لتقتنصه كما يقتنص الصقر فريسته..
ذلك المأمول الذي ينتظرك هو ما يملأ كيانك ببركان من الرغبة المتوقدة والتحفيز الملتهب لكنك وسط كل ذلك تغفل أو تسهو عن عقبة واحدة تظنها غير جديرة بالقلق وتجهل أنها قد تكون غالباً قاصمة الظهر.. إنها تلك الخصومة غير المتوقعة من المقربين لك.
عبارة غاندي توحي لك بأولئك الأباعد والأغراب والأعداء وتغفل أنها قد تعني من يحيطون بك، فنحن دوماً نولي أعداءنا معظم استعدادنا للقتال، ننتبه لتحركاتهم ضدنا، ونحسب خطواتهم لنقاومها وننتصر عليهم عابرين كل عقباتهم، كما أن الغرباء أيضاً خطر.. فنراقبهم بحذر شديد فهم لا يعرفوننا وليسوا مضمونين، وبين هذا وذاك نغفل غالباً عن إساءة المقربين.
نعتقد -لسذاجتنا- أن من البديهي أنهم سيكونون معنا، سيساندوننا، سيؤمنون بنا بل ويراهنون علينا فهم يعرفوننا جيداً وفي النهاية ما سنحققه هو فخرٌ لهم لكونهم في دائرتنا المقربة والخاصة، هكذا نقنع أنفسنا.. حتى تعصف الحقيقة بنا لتصفعنا بكل وحشيتها.
فالأقربون غالباً هم أبشع شوكة ستنغرس في قدمك لتثقل خطواتك وربما تشل حركتك تماماً.. غالباً الأقربون هم الذين لا يرون حقيقتك المشرقة؛ لا يلاحظون روعتك ولا عظمتك؛ ولا يعترفون بتفردك.
القاعدة المتوارثة في علم العلاقات تؤكد أن هناك علاقة طردية ومتفاعلة بين القرب وقلة التقدير.. بمعنى كلما كان الشخص في مكانة أقرب لك كلما كان هذا أدعى لقلة تقديره لمحاسنك وتألقك، ولهذا الأمر أسباب متعددة علينا التركيز عليها لفهم هذه الديناميكية الصعبة في العلاقات.
القرب يجعلك -في نظر الطرف الآخر- شخص عادي أكثر مما عليه الاخرين، إنه يرى بوضوح عيوبك ونقصك كأي بشر وهذا يجعله يستهجن أي محاولة لك للتفرد أو للتميز أو للتقدم نحو مكان قيادي وكأن عليك أن تكون مخلوق أسطوري ليقتنع بك، يفكر باستياء أنه يعرفك جيداً على حقيقتك ولذا لا داعي للتباهي أو للتظاهر الذي تمارسه في مسيرتك الجديدة والمندفعة.
إنه يعتبر رغبتك في التألق أمراً شخصياً يُؤرقه لذا يسعى إلى التقليل من شأنك بل وفضحك كما يزعم وهو بهذا سيُلزمك حدك فمن أنت لتكون غير ما أنت عليه في نظره الثاقب؟!
والقرب هنا قد يكون النشأة الواحدة كأن تكونوا إخوة يسري فيكم نفس الدم أو أن تكونوا أصدقاء الطفولة أو جيران أو زملاء دراسة أو رفقاء جماعة أو أتباع لنفس الديانة.
من ناحية أخرى، فإن شعور المنافسة للنظير يتجسد هنا بقوة فيشعر هذا الشخص القريب أنكما كنتما على قدم سواء بسبب تلك الرفقة أو النشأة التي جمعتكما؛ لذا حين تحاول أن تصبح شخص مختلف فأنت تحاول دهسه والتعالي على مقامك المتساوي معه وهذا شيء غير مقبول عنده؛ لذا فهو يحاول تحطيم هذا الشخص الجديد الذي تريد أن تكونه..
وكلما كانت هناك مساحات أكثر مشتركة بينكما كلما زاد هذا الشعور التنافسي وذاك الرفض والاستهجان، فأفراد الجنس الواحد أكثر رفضاً لبعضهم البعض، فالذكور يرفضون الذكور بشدة وضراوة، والمرأة يمكن أن تقبل تقدم رجل عليها لكنها تستهجن تألق امرأة من نفس جنسها.
إن المساحة المشتركة توقظ شعور عميق بالتساوي والتشابه وبالتالي الندية والرغبة في المناطحة “فلماذا هو سيتقدم وأنا عليَّ الاعتراف به؟!”..
الأمر ذاته في زملاء المهنة الواحدة والمجال الواحد، فتجد هؤلاء يتطاولون على بعضهم البعض في أقرب مناسبة ويشككون في انجازات بعضهم، بل ويحاربون بعضهم، ففي داخل المهنة الواحدة “نحن نعرف بعضنا.. نحن على قدم سواء وهو ليس له الحق ولا القدرة على التقدم فهو خبز يدنا كما يقال”، هناك شعور عميق أن تقدمك يعني ضمنياً تأخرهم وأن نجاحك يعني ضمنياً فشلهم أو عدم كفاءتهم وخاصة لو كنت أصغر بالسن أو مختلف المنهجية أو ذو سمة تجديدية حقيقية..
الأدهى أن نفس هذه القاعدة تحدث في نفس أفراد الشعب الواحد، فتجد الكثير يتقبل الاعتراف بترفيع ذلك الغريب من جنسية أخرى بل وقد يدين له بالولاء ويتبعه، لكنه لن يتقبل أخاه من الوطن نفسه..لا يمكنه أن يعترف أن هناك مواطن مثله قد تفوق عليه ويجب أن يدين له بالقبول… الأمر شخصي بالنسبة له “فنحن من نفس الطينة، وهو ليس أولى بالوطنية مني.. فلماذا يتقدم هو وليس أنا؟!”..
نفس الأمر ينطبق بشكل جذري وجوهري على رفقاء الجماعة الفكرية الواحدة أو الديانة المشتركة، وهذا ما يفسر أن أعنف الحروب الدموية التي دامت لقرون كانت باسم الدين والانتصار للربّ الذي يدعي الجميع أنهم الأقرب إليه..
يمكننا تسمية ذلك بالحسد فهذه الممارسة قائمة على رفض هبات وجدارات الآخر… ذلك الآخر الذي أراه مساوياً لي، بل وأقل مني فأنا -بزعمي- أعرف عيوبه ونقصه جيداً، وبالتالي أنا أدرى بما يستحقه بالضبط..
نعم، إنها لعنة قابيل الأخ الذي رفض تفوق أخيه هابيل واشتعلت نفسه بالحقد عليه ومكر به ومن ثم قتله، إنها لعنةٌ أصابت الأخ الذي يحطم أخواته الإناث في البيت ربيبات طفولته.. فهي لن تتفوق عليه أبداً ولن يكون لها شأن أعلى ولو اضطر لتكسير عظامها والافتراء عليها وعلى أهليتها!
نفس اللعنة التي أصابت أصحاب الوطن الواحد والقرية الواحدة بل والأسرة الواحدة حين يرفض أفراده ذلك العظيم الذي يتألق نجمه بينهم وصار له رسالة وقضية يريد أن يجمع الناس حولها، فترى الغرباء الأكثر إعترافاً به بل والمسارعين لنصرته ولاقتناع فكرته بينما أهله وقرابته وصحبته القديمة هم الأكثر عداءً ورفضاً واستخفافاً بشأنه وبحلمه..
لعنة أهل المهنة الواحدة والمجال الواحد حين تراهم يتقاتلون بينما المفترض أن يتعاونوا.. يغتاب بعضهم البعض ويشهر به ويذمه ويقلل من شأن كل مبادراته وانجازاته..
لعنة الزوج الذي لا يرى روعة وعظمة زوجته، فهي مجرد ملكية خاصة به فقط والزوجة التي لا ترى في زوجها الكثير لتؤمن به وتراهن عليه..
الحقيقة الأكيدة أن (القرب ليس شيء نكونه بل شيء نختاره)..
فالقرب المكاني هو ما قد يصنع الجدران والأسوار العالية بيننا وهو من قد يشعل الحروب في الوطن والبيت، يحدث ذاك حين نختار نحن أن لا نرى بعضنا إلا من خلال الأنا المتعالية والأحكام المسبقة المجحفة السطحية…
أن تختار التعرف على من بقربك هو شي يجب أن تفعله بتجرد وموضوعية وتواضع لتراه كما هو لا كما تخاف ولا كما ترغب فهو في حقيقته ماهيةٌ مختلفة عن مخاوفك ورغباتك ونزواتك..
لذا، دعونا نواجه هذه الحقيقة بوعي… لا تفترض أن من حولك من الأقربين هم من سيصطفون بجانبك، عليك أن تستعد لاحتمالية أن يضيقوا بكونك عملاق يشعرهم بالتقزم وسيفعلون كل شيء.. كل شيء ليعيدونك ذلك القزم الذي يرونه دوماً كحقيقة لك..
ليس عليك أن تعاني خيبات أمل تسحقك  أو إحباط خانق يحطمك، بل عليك تفهّم أسباب ذلك وحيثياته كحقيقة من حقائق طبائع البشر وغريزتهم، كما أنه لا يحق لك استباق سوء الظن بهم فالتاريخ يحكي عن مقربين كانوا أكبر عون لأصحاب الرسالات والمشاريع الناجحة، فالأمر كما قلنا اختيار يقوم به الطرف الآخر وأنت لا تعرف ماذا سيختار، لذا لا تستبق الأحداث وتضمر سوء ظن تجاهه.. افعل ما عليك واجذبه إليك بما تستطيع وراقب موقفه بعدها.
هون عليك.. مرارة غصص هابيل ليست بالأمر الذي يمكن تجاوزه بسهولة، لكن الأمر برمته ليس خطأك وليس بيدك حيلة تجاهه إلا أن تكون عظيماً في أخلاقك وتحتسب أجر أوجاعك وتظل ماضياً في دربك حتى النهاية إذ لست وحيداً في ذلك فهاهم الكثير من الأنبياء والعظماء قد مضوا قبلك وصابروا.. ثم سعدوا..
ابتهج..
فالله يجعل في بِرّ الغريب عوضاً عن عقوق القريب.. ولن يضرنَّك كيدهم شيئاً  إلا اللمم..
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى