إذا أسمعته أغنية السندريللا “الدنيا ربيع والجو بديع”، اسمعك أغنية الأطرش “أنا عمر بلا شباب وحياة بلا ربيع”.. وإذا رددت له معلقة عمرو بن كلثوم، ردّها عليك بيتيمة الحطيئة.. أما إذا قلت له: صباح الفل، ردّ عليك قائلاً: عظّم الله أجركم!
إذا توقف طموح المرء عن الخفقان، أو ذبلت وردة حلمه، أو انطفأت فيه جذوة الأمل، فقد مات المرء ذاته. وليس بالضرورة أن يكون الموت بيولوجياً دائماً. وذات ليلة شتائية كئيبة، قال فيلسوف أغريقي -نسيت اسمه ورقم موبايله- أن أفدح مآسي الحياة أن يموت شيء داخل الإنسان وهو لا يزال حياً.
لي صديق متجهم لخمس وعشرين ساعة في اليوم. البؤس كأسه، واليأس لباسه، والقنوط تاج رأسه. كلما أبديت في حضرته شعوراً بالتفاؤل أو ألقيت على مسامعه كلاماً ملؤه الأمل، نظر إليَّ شزراً وأردفها بعبارة تكسف الشمس وتخسف القمر وتحيل النجمة فحمة!
إذا أسمعته أغنية السندريللا “الدنيا ربيع والجو بديع”، اسمعك أغنية الأطرش “أنا عمر بلا شباب وحياة بلا ربيع”.. وإذا رددت له معلقة عمرو بن كلثوم، ردّها عليك بيتيمة الحطيئة.. أما إذا قلت له: صباح الفل، ردّ عليك قائلاً: عظّم الله أجركم!
ذات صباح صحو ومشرق، في أرقى شوارع باريس، راح صاحبي يكتب مقالة عن الانهيار الوشيك للمجتمعات الغربية، لأن الرأسمالية على وشك أن تحفر قبرها بيديها، وأن البؤس المطلق هو مصير المواطن في هذه المجتمعات بعد عقد من الزمان على الأكثر.
بعد نحو عشرين سنة، لقيت صاحبي في أحد الأسواق الشعبية في صنعاء، يشتري ربطة قات رخيصة -نوعاً وثمناً- ويرمي ما تلف من أوراقها على قارعة طريق في غاية البؤس. سألته: ما أخبار الرأسمالية؟. ردّ عليَّ : shit !
ولي صديق أشتهر بيننا -نحن معارفه وأصحابه- بأنه “لا يعجبه العجب…”. وبالرغم من أن الأستاذ الفذ ايزاك نيوتن أثبت قديماً أن ألوان الطيف السبعة إذا أمتزجت، فإن لوناً واحداً ينتج عن هذا المزيج هو الأبيض، غير أن صاحبي يُقسم بأغلظ الأيمان أن نيوتن على خطأ فادح، وأن اللون الناتج عن هذا المزيج هو الأسود الحالك والمُنيّل بستين نيلة!
وكان أحد الأصدقاء يستفزّني بترديده الدائم لكلمة “تفاءلوا” في كل مقام ومقال.. حتى إذا قلت له إنك في غاية الانشراح أو في تمام الابتهاج. ولا تدري ماذا سيقول لك إذن لو أخبرته بأنك محبط أو يائس!
وليست هنا بؤرة المسألة أو مربط العنز، فالدعوة إلى التفاؤل محمودة في كل الأحوال. المصيبة أنني لقيت هذا الصديق منذ أسبوعين وهو في ذروة النكد وقمة التعاسة -مثل كل اليمنيين تقريباً- بسبب الأوضاع التي آلت اليها البلاد وانغمس فيها العباد جراء الحرب ومخلفاتها.. وبعد أن ردّد على مسامعي ضروباً من أفكاره السوداء وكوابيسه الكالحة تجاه ما يراه من أهوال الأحوال، وجدتني أُعيد على مسامعه كلمته الأثيرة “تفاءلوا”.. ولم أنتبه إلاَّ على مصفوفة من الشتائم يقذفها على رأسي هذا الصديق الذي ظل متفائلاً على الدوام!
لا أعتقد أن اثنين يختلفان على أن ما نعيشه اليوم في هذا البلد هو لعمري من أفدح مآسي الحياة على الاطلاق. فقد أجتمع الجوع بالجور، والذل بالوباء، والقهر بالمخافة، في زمن واحد ويمن موحد..
غير أنني سأظل قابضاً على زهرة الأمل، كالقابض على جمرة الإيمان. ولن أُفلت هذه الزهرة من يدي، مثلما أفلت بعضهم غصن الزيتون من يده. تفاءلوا.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.