آراء ومواقف

كل هذه العلوم

عبدالحفيظ العمري

ارتباطي بالعلوم ليس مجرّد اطلاع لحب الاطلاع، لكنه نتيجة قراءات طويلة أوصلتني إلى قناعة راسخة أنّ العلوم، والطبيعية منها بالذات، هي المنفذ الآن لصناعة المستقبل.

ارتباطي بالعلوم ليس مجرّد اطلاع لحب الاطلاع، لكنه نتيجة قراءات طويلة أوصلتني إلى قناعة راسخة أنّ العلوم، والطبيعية منها بالذات، هي المنفذ الآن لصناعة المستقبل.

ستقولون: أين هذا المستقبل الذي تتحدث عنه وسط ركام الخراب الذي يلف المنطقة عامة، واليمن خصوصا؟
أجيب: نعم هناك خراب ودمار ويأس يخترق القلوب، لكن التاريخ يقلّب صفحاته وفي الأخير لا بد من بداية جديدة. لذا لا بد أن يتغيّر الوضع، إذ لا شيء يظلّ على حاله أبدا.
لذا لن نلغي المستقبل لمجرد سوداوية الحاضر، أو أننا لا نستطيع تخيل المستقبل! ففي تاريخ العلوم، هناك اكتشافات ظهرت وسط حروب طاحنة؛ لقد قدّم آينشتاين نظريته المبهرة النسبية العامة ضمن سنوات الحرب العالمية الأولى التي طحنت أوروبا عامة، وألمانيا خصوصا.
وقدّم عالم الفيزياء الألماني، كارل شفارتسشيلد، أول حل دقيق لمعادلات آينشتاين للمجال في النظرية النسبية العامة، حيث توصل إلى هذا الحل في خنادق القتال أثناء الحرب العالمية الأولى، وغيرها الكثير من الأمثلة المبثوثة في تاريخ العلم.
إن مَنْ يقفْ عند لحظةِ الحدث عاجزا، كمنْ يقف عند قطرة من نهر جارٍ، وينسى المياه المتدفقة الغزيرة! الحياة هي المعرفة، والمعرفة هي الحياة، والعلوم هي روح الحياة نفسها، ووسيلتنا العظمى لسبر أسرار الكون.
العلوم تطوّر من تفكيرنا الاجتماعي، وتجعلنا نؤمن بالتعايش بدون قرار سياسي، لأن منْ يعلم يدرك، ولو إلماما، بعض قوانين الكون التي تأخذ في اعتبارها كل شيء من الذرة حتى المجرة، فكيف بعد ذلك يبرّر إلغاء الآخر باعتباره مغايرا له؟ لو لم يكن مغايرا له لما كان آخر.
العلوم هي المستقبل الذي لا يلغي الماضي، بل تضيف عليه وتبني، وتاريخ العلم ما هو إلا ثمرة من تراكمات القرون الخوالي، فكل أمة في أوج حضارتها، تضيف لمعمار العلم الشامخ لبنة أو لبنات، لتكمل الحضارات اللاحقة تشييد هذا المبنى العظيم، فالعلم في نهاية المطاف هو تراث البشرية جمعاء.
العلوم هي لغة الشعوب للتفاهم من أدغال أفريقيا حتى مختبرات “سيرن”، وتكاد تكون لغة العلم لغة عالمية لكل الشعوب.
خذ أنموذجا قوانين الفيزياء أو الرياضيات، ومثلها رموز العناصر الكيميائية وغيرها.، فهل هناك كيمياء شرقية وأخرى غربية في تصنيف تاريخ العلم؟ لغة الكيمياء واحدة في كل مختبرات العالم، وهنا تكمن موضوعية العلم الذي لا ينحاز لجنس على آخر.
تضافر العلوم مجتمعة تصنع الإنسان بحقيقته، بل تبصّر الإنسان بمكانته في الكون الشاسع، وهو يستخدم أدوات العلوم المختلفة لسبر هذا الكون، وضمن ذلك سبر نفسه.
في العلوم سيكون حتى الأدب والفن حاضريَن؛ لأن العلوم لا تلغي أي واحد من هؤلاء. يقول فيلسوف العلم ديفيد بوم: “الفيزياء صورة من صور البصيرة، مثلما هي صورة من صور الفن”!
في حين يقول الدكتور أحمد مستجير، في كتابه في بحور العلم: “ثمة ارتباط بين إفراز الملح (كلوريد الصوديوم) والبكاء العاطفي، وإن كانت نسبة الملح في الدمع تقل عن نسبته في الدم، لكنك إذا بكيت طويلا، زاد تركيز الملح في الدمع حتى ليحرق.
أما ترى شكسبير في “الملك لير” يعبّر عن الحزن العميق بقوله: “دموعي تحرق، مثل رصاص مصهور”. تبرعمت العلوم اليوم وصنعت انفجارا معرفيا يحتاج أعمارا للإلمام بنتائجها المذهلة، وهي قفزات نوعية خلال فترة تكاد لا تتعدى الخمسة قرون.
الجميل والغريب في الأمر معا أن الإنسان كلما توغّل في سبر أعماق الكون وأعماق نفسه يكتشف أنه يجهل الكثير، عبّر عن ذلك الدكتور، شامل ذكريا، بمقال عنوانه “خمسة قرون ثورة علمية ونجهل الكون”، أليس هذا هو نفس معنى بيتي الإمام الشافعي:
كلما أدبني الدهرُ … أراني نقصَ عقلي
وإذا ما ازددتُ علماً…. زادني علماً بجهلي
نقلا عن العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى