وصفه البعض أيضا بأنه أبأس من الفولاذ، ووصف أعصابه بأنها أعصاب امرأة تغيب عن الوعي..
في إحدى المقاربات الغريبة لطبائع الأدباء والتي ربما تجدها وأنت تتبع حياتهم وسيرهم أو تقرأ مذكراتهم واعترافاتهم، قيل عن الأديب والروائي الروسي تولستوي إنه أكثر غباء من البغل.. كان أساتذته من قالوا عنه هذه الكلمات في طفولته، لكن الزمن لا يدرك النابغين في وقت مبكر، فمن قالوا عنه أنه أكثر غباء من البغل، سينتظرون بعد سنوات كل ما يكتبه هذا “البغل” بلهفة.
وصفه البعض أيضا بأنه أبأس من الفولاذ، ووصف أعصابه بأنها أعصاب امرأة تغيب عن الوعي..
كاتب وأديب عرفه الجميع من خلال مذكراته التي تركها لقراء الأدب الروسي، حين وضع فيها كل صراحته دفعة واحدة، لكنّ البطاقة التعريفية التي كتبها ليو تولستوي عن نفسه كانت غريبة جدا ومدهشة في الوقت ذاته: وضعتُ رجالا للموت بالحروب، خضتُ مبارزات شرف، ونحرتُ الرجال، استغليتُ الفلاحين ومصصتُ دماءهم، ونالتني كل أمراض القذى الفاحش.
يفعل الكثيرون ما فعله تولستوي بنفسه، لقد أشعل في حياته ناراً لم يستطع إطفاءها فيما بعد، فقد أجبر امرأته صوفيا في ليلة زواجه منها على قراءة كل مذكراته ومغامراته العاهرة مع النساء، وكان قد دوَّن جميع هذه المغامرات، معتقداً أن ذلك كان صراحة منه وبداية لحياة جديدة، لكنّها لم تبعث النتائج المرجوة، بل حولت حياته إلى جحيم، وكان فيها الجمرة التي احترقت حتى انتهت.
عندما قرأت امرأته تلك المغامرات كتبت صباح اليوم التالي أسفل الصفحات: أقذر ما قرأت، وكانت هذه الكلمات بداية لحياة مؤلمة سيعيشها نبي الروس مع امرأته.
كان الحديث عن الجحيم ظاهريا في حديث تولستوي، وبعد هذه الحادثة انسحب وتمدد على حياته كلها.. لقد انتقل فعليا إلى الجحيم.
يجمع تولستوي في شخصيته تناقضات عدة، فقد كان جباراً للغاية، وكان في شبابه يجلد الفلاحين حتى تنسلخ ظهورهم، ثم يجلس طوال الليل يبكيهم ثم تاب، لكن ضميره ظل يؤنبه على أفعاله طوال حياته.
ليس غريباً هذا الضمير اليقظ على كاتب كتولستوي، فأحد الأمريكيين كتب ذات يوم أن الله يغفر ذنوبنا وأخطاءنا التي ارتكبناها في حياتنا، لكن جهازنا العصبي لا يغفرها البتة.. إنه يؤنبنا وينغص علينا كل لحظات الهناء والسعادة.
كان يتحدث عن الضمير.. الضمير الذي حدا بآنّا كارنينا وهي شخصية رئيسية ابتكرها تولستوي لأن تلقي بنفسها تحت عربة قطار بعد حياة مليئة بالخيانة الزوجية، وقوبلت من قبل الزوج بترفع وتسامح كبيرين.
ليس هذا ما يهم، إن كانت آنا كارنينا شخصية حقيقية أم شخصية من ورق، لكنها شخصية رأت الطبقة الارستقراطية في روسيا أنها تعيش في قصورهم، وتتجول بينهم حاملة في ملابسها رائحة الخيانة وعذابات المعاناة.
في متحف الكرملين تحتفظ إدارة المتحف برسالة تمثل أدب روسيا القيصرية، فقد بعث تولستوي لزوجته رسالة بعد أن حولت حياته إلى جحيم كما يصف ذلك تولستوي نفسه قائلاً لها: أشكرك على ثمانية وأربعين عاماً من الحياة، إنني لا أفعل شيئاً كبيراً، فقط أفعل ما يفعله الناس في عمري.. يذهبون بصمت، ولا يعودون أبداً.
في مذكراته تلحظ إحدى الجمل التي ليس لها قرار.. جملة تكاد تكون شاذة لكنها تكشف جانبا عميقا من شخصية هذا الأديب، فقد كتب في مذكراته يوم مات أخوه ديمتري الذي كان يمقته: أزعجني بموت ديمتري أنه منعني من حضور حفلة رقص كنت مدعوا لها..
وقد كتب تولستوي عن حياته الزوجية بمرارة فهو يقول إن سبب كراهته للحياة هي تلك الفتاة التي ارتبط بها في حقول روسيا آملا في مستقبل واعد، فكتبت هي بعد موته مذكراتها التي أسمتها “غلطة من” ونشرت فيه كل ما حدث خلال حياتها مع تولستوي.
في عام 1910 عُثر على تولستوي في محطة نائية مقطوعة مستلقياً تحت جذع شجرة وقد تجمدت رئتاه حتى الموت..
لكن تولستوي كان حرا وحرا بمعنى الكلمة.. لقد جاء وهناك أحد عشر ألف كتاب يتحدث عن عظمة شكسبير، لكنه لم يأبه لكل هذه المكتبة العظيمة، وكتب قائلا في كتابه “شكسبير والدراما” إن شكسبير لم يكن كاتبا عظيما ولا حتى كاتبا من المستوى المتوسط.. ربما لم يقل أحد عن شكسبير أو لم يجرؤ على قول ما قاله تولستوي.
العظمة أن تقف ضد أحد عشر ألف كاتب.. ضد هذا النهر المتدفق لتقول لا، أنتم مخطئون جميعا، إن شكسبير ليس كاتبا عظيما ولا حتى كاتبا متوسطاً.
وبعد أكثر من قرن على وفاته يبقى تولستوي ذلك العظيم الغامض.
الخلود لتولستوي في ذكرى وفاته الثامنة بعد المائة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.