اتضح أن الشذوذ الثقافي ينتشر برعاية الحوثيين، الذين يحصرون الثقافة في أفكارهم ذات الطابع السلالي والطائفي، وما عداها ما هو إلا هراء، لا يستحق أن يكون له أي مساحة.
في يوم ما من أيام الاعتقال، تصفحتُ صحيفة المسيرة الحوثية لأطرد السأم عني، ولفت نظري مقالاً لأحدهم يتحدث عن رموز التحرر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وكان الأمر سيكون طبيعياً حين يسرد أسماء لشخصيات كبيرة من أمثال عمر المختار، وعبدالقادر الجزائري، ويوسف العظمة، لكن ما أثار استغرابي هو حشر الإمام يحيى حميد الدين ضمن قادة التحرر ومناهضة الاستعمار.
بدا الأمر مثيراً للسخرية، واتضح أن الشذوذ الثقافي ينتشر برعاية الحوثيين، الذين يحصرون الثقافة في أفكارهم ذات الطابع السلالي والطائفي، وما عداها ما هو إلا هراء، لا يستحق أن يكون له أي مساحة.
قبل أيام من اطلاق سراحي نقلوني إلى أحد سجون ذمار، وكان أخي يتردد عليّ لتلبية احتياجاتي، وطلبت منه أن يحضر لي أحد دواوين البردوني أو الزبيري لأقضي ما تبقى من أيام السجن في القراءة، لكن شاوييش السجن استنكر ذلك وطلب منا اخفائها وإعادتها فوراً، وإلا فإنهم سيغيرون رأيهم في إطلاقي ويعيدونني إلى صنعاء، هذا ما قاله الشاويس، أما لو مشرف السجن فإنه يعتبر هذه الكتب وأسماء أصحابها رجس من عمل الشيطان.
اتضح لي حجم العداء لرموز التحرر والحرية التي ادّعوا أن الإمام يحيى كان أحدهم، بينما هو ينظر اليمنيين طاغية من طغاة السلالة الإمامية التي ترى في أبناء القبائل اليمنية وقوداً لمحارق الموت في سبيل إعادة الإمامة، التي كانت عناوين كتيباتهم التي يوزعونها على المعتقلين ويمنعون ما سواها، وهي الكتب المحشوة بعبارات هي أشبه بحدث العجائز، ومع ذلك يصرون على أنه ثقافة قرآنية.
وضع السجانون للمعتقلين ملازم مؤسس الجماعة حسين الحوثي، وفي أحد الأيام طلب مني المحقق “السراجي” أن أخبره ما الذي استفدت منها، في الحقيقة لم أفهم منها شيئًا سوى أنهم يريدوننا أن نعطّل عقولنا لصالح أفكارهم المتخلفة، قلت له: إنني لم استوعبها، فحسين الحوثي يفكر بعمق وأنا فهمي سطحي. أحسَّ بإنني اسخر منه، وأقسم أيماناً أن المكتبات هي السبب في عدم قبولنا لثقافتهم، لا أدري أي ثقافة يحملونها بينما هم أعداء الثقافة.
في ذكرى ثورة 26سبتمبر وغيره من الأعياد الوطنية، كنا نظهر ابتهاجاً ونحاول أن نحيي الذكرى بأي مظهر احتفائي، فيرتد ذلك علينا تجهماً من الحوثيين، الذين يريدوننا أن نحتفل بمناسبات لا تمت لمجتمعنا وهويتنا اليمنية بصلة.
حاول الشخص المصنف لديهم “ثقافياً” أن يقنعنا أن الأرض قائمة على أشخاص وسلالة، وأن يصور لنا أن نضال اليمنيين ضد مشروعهم هو صراع بين بني هاشم وبني أمية، كما حاول ان يقنعنا أن أول اسم “علي” في الأرض هو علي بن أبي طالب، وحاولت أن أقنعه أن الملك الحميري ذمار علي يهبر حكم هذه البلاد في القرن الثاني الميلادي، ولا يزال تمثاله العملاق شاهداً على عظمة اليمنيين.
لقد كان والدي -منذ كنت طفلاً- يستقبل ذكرى سبتمبر بما يليق بها من الاحتفاء الذي كنت أراه مبالغُ فيه أحياناً، وزرع فينا روح الفخر بسبتمبر والجمهورية، إلا أنه تأكد لي وأنا في سجن الإمامة الجديدة أن والدي كان يعطي المناسبة حقها، فقد حررت اليمنيين من كمّ هائل من الخرافة التي أصبحت في نظر هؤلاء ثقافة قرآنية.
أدركت أن المشروع الحوثي يعمل جاهداً على جرف الهوية اليمنية لصالح هويات لا تمت لهذه الأرض وتاريخها وشعبها بصلة، لكنهم لم يدركوا حتى الآن أن هذا الشعب العصي على التطويع لن يقبل الخرافة من جديد، وأنه يصنع اليوم ثورة تحرر يمنية عربية سيكون لها رموزها، مقابل أصنام ستسقط كما سقطت من قبل أصنام الإمامة تحت وقع ثورة 26سبتمبر ونضال رجالها ورموزها الميامين.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.