فكرة “التعبير” أساءت إلى أبعد حد لجوهر التمثيل، تركته عاريا، أداء مطلقا بلا مرجع، لأنها حاكمته مرة باسم مطابقة موضوعه، ثم اختزلته باعتباره موضوعا لذاته.
إذا كان ثمة فضيحة الآن فهي فضيحة لا تتعلق بالسياسة ولا الاجتماع بل بالفن. وذلك بالتحديد في الوقت الذي يصبح فيه المجتمع الإنساني كله فنانا بطريقة ما.. ألم يكن ذلك مبلغ أمل الفنان الديموقراطي على أي حال؟. الفن اليوم، يخرج عن كونه ممارسة ونشاطا خاصا ليلاقي تخومه، ضفته الأخرى: الحياة نفسها كفن. ولكن كنوع واحد من الفن هو “التمثيل”. الفن يمثل، والحياة أيضا لدرجة ألا تمايز . بالطبع ذُكر التمثيل من قبل كوضع اغترابي للرأسمالية العليا، كتهديد بأحادية كئيبة مقبلة، وأحيانا ببهجة ناقمة كنهاية لفكرة الحقيقة. لكن في كلا الحالين لم يستبطن موضوع التمثيل ذاته (وأستخدم كلمة التمثييل بالمعنيين معا الجمالي والوجودي)، باعتباره كان العدو والنقيض الزائف لتصور أرعن عن الحقيقة. افتُرض التمثيل من البداية ليتم تجاوزه، وُهِب للحقيقة تحت اسم “التعبير”؛ أي كون التمثيل معبرا عن موضوع خارجه.
فكرة “التعبير” أساءت إلى أبعد حد لجوهر التمثيل، تركته عاريا، أداء مطلقا بلا مرجع، لأنها حاكمته مرة باسم مطابقة موضوعه، ثم اختزلته باعتباره موضوعا لذاته.
الآن ثمة شيء عفن حولنا. فباسم أي قيمة يمكنك أن تحاكم جرائم ترتكب يوميا بأعلى درجة من الوقاحة، أي “دور” عليك أن تؤديه؟ ليظل في النهاية مجرد “دور”: الحقوقي نصير القانون، الكاتب المدافع عن الجمال، السياسي الذي يوازن المصلحة بالمبادئ؟ نقول “دور” لأن الدور لا يحيل إلى واقع العنف كموضوع للمعرفة، بل كمسلّمة يقيم في مواجهتها مرافعاه.
لماذا تفشل التدخلات الإنسانيةالآن في أماكن الصراعات المروعة وأشباه الدول، إلا لكونها تمثل “أداءات” إنسانية أو سياسية لا تطال جوهر الصراع ولا تريد. لقد تحول التدخل إلى نوع من درء الانهيار فقط، أي تأبيد الأزمة نفسها. أما عن المستقبل فليس إلا نظرة حمائية.
أي مستقبل مادام التمثيل الخالص ينهي الزمن أصلا ويحاصره في الأداء؟ ملايين الأزمنة الصفرية لملايين من تجارب الأداء، أعظم صورة للديموقراطية هي نهاية الزمن بمعناه التاريخي، هذا لم يكن وعد الحداثة، بل وعد الكسل المشمس لأجساد كفت عن التساؤل عن معنى. المعنى حضور خالض، ارتخاء في العضلات، “لقد وجدت نفسي”.. بصوت واهن لا يكاد يسمع. لكن انظر الآن إلى صراخ الذين “وجدوا أنفسهم”، إلى العنف الذي يفَسَّر كما لو كان انحرافا ناشزا، مع أن الواقع يؤكد كل يوم سيادة العنف، بحيث يتشكك الواحد في إن عبارة “وجدت نفسي” هي نفسها عنف.
ألم تكن الدولة “تمثيلا”، ها هي تمثل ذاتها، ما المانع؟.. لم تسقط الدولة بنهاية التمثيل بل أطلقت يدها في تجربة أداء مروعة. نحن الآن شعراء في كل مكان، كأنما حبسوا في مصيدة مجاز باتساع الحياة نفسها.
لا عصر ربما حمل كل هذه الصور والاستعارات لتكون واقعا. إن الأشخاص أنفسهم يقدمون ذواتهم أو يُطرحون كاستعارات صلبة ملتصقة بالجسد ولا يتحدثون وفق معاني تفاوضية تقع على مسافة منهم، والإعلان التجاري اليوم يركز على هذه الوضعية إنه يختار أشخاصا عاديين، لا يركز على موضوع الإعلان بل على الشخصي فيه، على النموذج، بانيا ترويجه على الحسد لا رغبة الامتلاك. (سأوضح فيما بعد الجانب السياسي من الفكرة).
نظريا انتهى زمن التعبير مادام الأداء هو الوضع الشامل. لكن ربما كانت هناك قصة أخرى.
السرد والمسرح
لقد كان هذا يحدث دائما، فليس باستطاعتنا إلا أن نقدم سردا عن ذات نعتقد أنها “نحن”، وأنها تمثلنا. لكن هنا الفرق: لقد كنا “نعتقد”، أي أننا كنا نختصر إلى أبعد حد مسافة التمثيل. لقد كان هذا الاختصار نوعا من الالتزام الاخلاقي تجاه ذواتنا وتجاه الآخرين أيضا. يصور لنا التمثيل فعلا خارجيا، هو الشيء المكشوف من ذواتنا، والمطروح في الفضاء العام، والمقدم إلى الآخرين ولذا فإن تمثيلنا في الحقيقة لم يكن مجرد صياغة قصة، بل جعل القصة منطقية بطريقة ما.. إننا لا نسرد أحداثا فقط، بل نجعلها مترابطة وملزمة، ولذا يبدو سلوكنا شبيها جدا بصناعة شخصية روائية بالمعنى الحرفي.
يشير جي ديفيد فيلمان في محاضراته “كيف نتواصل؟” إلى شكلين مترابطين من التواصل الإنساني: مسرحي وقصصي. يتصور فيلمان أن الحال التي نعبر فيها عن ذواتنا (أو نعتقد ذلك) هي تلك الحال المسرحية التي تعتمد على نوع مباشر من السببية. وتتلخص هذه السببية في إسناد التعبير الشخصي إلى مصدره النفسي أو الذاتي، فالذات هي سند التعبير ومرجعه. لكن فيلمان يؤكد، من جهة أخرى، على كون سردنا يكتسب طبيعة قصصية موازية. الأهم أنه فيلمان يجادل هنا عن طبيعة بناء السرد القصصي ذاته نافيا أن تكون السببية كافية في إقامته. وهو بشكل غامض يتحدث عن الغاية “العاطفية” والعلة الإخلاقية، أي إكساب الحدث المروي معنى وقيمة. ولكن أي معنى وقيمة يمكن تحقيقهما في حوار مع شخص آخر إلا المعنى والقيمة اللذين نضمن، بطريقة مسبقة ومتخيلة، اعترافه بهما؟
نبدأ مسرحيين، متقمصين ذواتنا في سرد أمام جمهور افتراضي، على قناعة بدرجة أو بأخرى، بجدارة ما نسرده لأنه ببساطة “نحن”، إنه يمثلنا وكفى. ولكننا نتورط ما إن يبدأ العرض في بناء قصة في الخارج، في العراء غير الآمن، وهو ما يكسر مسافة التقمص نفسها. ويشكك في السرد ما إن نبدأ، ويعدّل قوانين الحكاية ومفهوم السببية ف.
وهذا ربما معنى يقوله في فوكو في محاضرة له “على الشخص الذي يعترف استبدال “الإظهار ” بالذات الداخلية، بهذا المعنى لا يعبر الإظهار عن الذات، بل يحل محلها”.
يكتب الروائي البرتغالي أفونسو كروش على لسان إحدى شخصياته في رواية “دمية كوكوشكا”: “الشهود والاستحسان والقصص هي التي تصنع الوجود”. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ يجبرنا “الشهود” على تعديل الشهادة باستمرار. فبشكل انعكاسي تصبح الذات نفسها على مسافة منا، موضوعا لسردنا المعدّل. “كلما زاد ما أرويه، تعزز الدليل على تضاؤل قدرتي على الوصف، إن “أنا” تدمر قصتها الخاصة على الضد من كل نواياها” بحسب جوديث باتلر.
الإنسان العاري
ألا يشبه الواحد أثناء لقائه بالآخر ذلك الإنسان “العاري” الذي تحدث عنه جورجيو أغامبين؟ في كتابه “المنبوذ.. السلطة السياسية والحياة العارية” يمنح أغامبين لـ”العري” معنى إشكاليا وتاريخيا داخل منظومة السيادة السياسية، فالحياة العارية ليست مجرد حقيقة بدائية للكائن قبل ولوجه المجتمع، ولكنها تشبه هذا الوضع. إنها نوع من التعليق للصفة الإنسانية/القانونية ومن ثم تعليق الحقوق المترتبة على هذه الصفة. يطور أغامبين فكرة “المنبوذ” في تاريخ السياسة الرومانية، ليجعل منها أصلا خفيا لممارسة السلطة في التاريخ الأوروبي الحديث. فالإنسان العاري هو مقصي ومستدعى في الآن نفسه، إنه مطرود من الحماية لكنه بفعل الطرد نفسه يعتبر موضوعا جذريا للسيادة.
يطور بذلك أغامبين مفهوم فوكو عن السياسة الحيوية، وطبيعة سيطرة الدولة الحديثة على “الأبدان”، واعتبارها الفرد “جسدا سياسيا” وموضوعا للسيادة. يعود أغامبين بالفكرة إلى ما يشبه “سوء الفهم التاريخي” الذي يتجاوز الحداثة ويصنع تقليدا سياسيا وقانونيا مخترقا التاريخ وكاشفا عن نفسه بوضوح في دولة الحداثة.
لكن إذا كان ثمة إنسان عارٍ (بإعادة استخدام مصطلح جورجيو أغامبين) فموقعه لا يبدأ من فضاء المدينة السياسي الذي يعزله، ويتضمنه في الوقت نفسه، إنه عارٍ ابتداء، عارٍ حتى في علاقته بذاته المسكونة بالآخر، عار ولكن ليس خارج اللغة تماما بل على حافتها، بين الصوت الخالص والكلام.
لا عري إلا في حضور شاهد. العري حال انفجارية كما يصورها الكتاب المقدس، بغض النظر عن فكرة الخطيئة الأولى، إنها حال تجلٍّ لجملة من العلاقات المتزامنة، لا أولية لطرف فيها.
إن أغامبين يتسلم المعضلة السياسية كما هي؛ أي في فضاء مدينة مقسوم بين الحياة الشخصية التي يسميها مجرد “العيش”، وبين “الحياة الجيدة” التي تنظمها السياسة أو تولد عبرها
إن الفعل السياسي كامن من البداية ومتجاهل. فهو وفق تراث بعينه كان عليه أن يقيم حساباته على أساس الإنسان الفرد (لا الإنسان العاري بالمناسبة). إن هذا الإفراد المطلق، وهو مجرد افتراض بالطبع، هو الذي يسمح بسؤال: ما الإنسان؟ ومن ثم كيف يمكن تنظيم حياته؟ وما الذي تعنيه الحياة بالنسبة له؟ تقوم السياسة بافتراض عري هو في الحقيقة موجود من البداية ولكن من خلال علاقة انعكاسية بالآخر.
كل من أغامبين وحنة أرندت يعودان للحظة اليونانية، أو المدينة اليونانية، ثم الرومانية، متجاوزين الطبيعة المركبة لما تسميه أرندت “الحياة الخاصة” (كتاب: الوضع البشري)، أو “العيش” بالتعبير الذي اختاره أغامبين (كتاب: المنبوذ..السلطة السياسية والحياة العارية). بما يوهم أن الحياة الخاصة هي حياة فرد غير مركبة، حياة بسيطة أولية مسلمين بالوضعية التاريخية الاستثنائية في العلاقة بالمرأة واحتياز العبيد باعتبارهما امتدادا للفرد/ الرجل. وكأنهما متضمنان فيه؛ ووسيلتان فقط للإعاشة، متحققان عند مستوى الضرورة.
أرندت وأغامبين يحكيان عن السياسة باعتبارها قصة رجل يتنقل من بيت على حدود المدينة إلى ساحة الخطابة فيها (مع ملاحظة أن أرندت تقدم نقدا عميقا للفردية المؤسس عليها التقليد السياسي الأوروبي). هل لهذا التجاوز من قيمة؟ نعم. إن الغرام (الذي افترض سلفا من لواحق البيت، ومن ثم من لواحق الفرد/الرجل) سوف يُضَمَّن في السياسة عبر أشكال استبدالية من العصاب الجماعي نعيشها إلى الآن.
يكتب أغامبين “الزوج المقولي الأساسي للسياسة الغربية ليس الزوج صديق/ عدو، بل هو الزوج حياة عارية/وجود سياسي، العيش/ الحياة”. لكن ألا يمكن أن يكون الزوج صديق/ عدو
إنما وضع في هذه الصيغة الثنائية بالذات، وكأنه خطأ متعمد، ليحجب بالذات ذكوريته؟ وبعبارة أخرى: ليحجب الآخرية غير القابلة للاختز
إن علاقة رجل/ امرأة هي تحديدا الجسر الذي يلتقي في منتصفه “العيش/ الحياة”، إنه موضع الضرورة الباحثة عن معنى. لا أقول إن “رجل/ امرأة” يمثل الزوج المقولي الأول، أو النموذجي.
إنه بالأحرى سوف يُتضمَّن في كل علاقة أخرى للفرد، إن الفرد منذ البداية عار بمعنى مختلف تماما، أي باعتباره موضوع اشتهاء غير مفهوم بالنسبة إلى ذاته. مطالبا الآخرين بتبرير هذا الفائض المقلق للرغبة.
إن الزوج صديق/ عدو يتضمن صراعا على ملكية مضمرة في كليهما، هذه الملكية عينها هي المُقصى من حساب الآخرية غير القابلة للاختزال.
لقد اعتبرت الأسرة شكلا بدائيا للتنظيم السياسي، هذه مسألة مشبوهة أصلا. إذ يمكن أن نرى الوضع المقلوب في هذا التصور. فالأسرة نفسها مفهوم مفروض من الخارج الاجتماعي، أي أن تشكله السياسي تابع لتشكل الجماعة البشرية سياسيا. الأهم: تلغي فكرة الأسرة باعتبارها وحدة متسقة، عدم اتساقها الجذري، وهي تتغلب على عدم الاتساق هذا بفرض قيادة أحادية للأسرة. عزل المرأة هو لعبة سياسية مركبة من البداية، لتجاهل السؤال الجذري والآخرية الساكنة في قلب البيت، قبل أن يصير بيتا.
ليس الإنسان العاري (الفرد) هو المقصي من السياسة والمستدعى بوصفه موضوعا، بل الحب هو المقصي بشكل مضاعف. يرتاح السياسي إلى الأسرة، ولكنه يشعر بالهول أمام تجربة الحب. لأنه هنا بالذات تتكشف حدود المجانية.
ماذا تعني “مجانية” تجربة الحب: تأجيل الحكم واستئنافه باستمرار، أن حوافز الرغبة تظل غامضة مهما تكشفت، أن الرغبة نفسها انعكاسية ولا أصالة لها، أن الحب نفسه ليس شيئا ، إنه مجال للتوتر، علاقة. هذا ما يريد أن يهرب منه السياسيي، مستبدلا الحب بالحكم. ومعتبرا الخصيصة السياسية مستكنة في الفرد على حده.
لقد فسر الحب باعتباره “رغبة”، واعتبر ما يقوم به المحب ليس أكثر من تمثيل مذعن لهذه الرغبة، لكن المأساة التي لا يتقبلها أحد هي أن “الحب” يشكك في الرغبة نفسها، يؤجل السلطة التي تمثلها، يكشف عن الوضع المركب للمجانية. ليست المجانية شعورا فرديا إنها أيضا محصلة علاقة، إنها الفضاء المحيط بوجودنا معا، والمتخلل لهذا الوجود.
فُسِّرت السياسة بالحكم، كما فسر الحب بالرغبة، والفن بـ”التعبير”.. يا للبؤس!
قضية فاغنر
في الفن يبدو، ظاهريا، أننا نعيش مرحلة موت “التعبير”، وهو ما يعني، للمفارقة، سيادته كأداء مطلق، أداء في العراء.
ربما لا يكون أكثر جذرية في التنكيل بنظرية “التعبير” مما كتبه نيتشه عن فاغنر. يصل نيتشه إلى قاع النظرية حيث يتجلى التنظيم السياسي الحديث للمجتمع. ثمة خيط يصل موسيقى “التعبير” بخطوة الحشد في الرايخ الثالث. الجمهور المنوّم بعاطفة جياشة من أجل هدف ما، هدف غامض، وغموضه يشكل حافزه الحيوي. فن فاغنر “التعبيري” فن الفكرة التي لم تولد، العالم الجديد، النفي (لو استخدمنا التعبير فلسفيا)، أو ما يسميه نيتشه “القدح”، إن أهم ما في نظرية التعبير هي السعي المجنون لتجاوز ذاتها، ولذلك هي تفترض المسافة أصلا التي تفصلها عن صورتها الحقيقة، ومن هنا تكتسب البعد الدرامي الزائف، على الأقل بحسب نيتشه.
يلمح نيتشه وراء الجموح المساوق لفكرة “الفرد”: موسيقى تهتم بالتفاصيل الدقيقة، بتفرد النغمة على حساب الاتساق، جنون التفرد الذي يهبط إلى مستوى فيزيائي “حيوية من نوع واحد، نبض الحياة وزخم طاقتها منحصران في المكونات الجزئية الأكثر ضآلة، والبقية فقر مدقع شامل، إعياء جمود، شلل أو بغضاء وفوضى”.
يرتكز نيشه على مسطرة دقيقة من الانتقادات لكننا نتوقف عند الخصائص الفارقة للحداثة الفاغنرية. “التعبيرية”
ـ “ممثل”.. يكثّف نيشه هذه الكلمة في وصفه لفاغنر. ممثل يحتقر الموسيقى نفسها، إنها طريقه للتجاوز، مرقاه إلى حقيقة فحسب، دراما وجود يتناواب عليها الانتصار والهزيمة.
ـ “حاقد” حيث يبنى الفن على احتقار لكل ما سبق. دائما وعد الحداثة بداية جديدة، بشارة أو وعيد.
ما هما طرفا المسطرة؟ إنهما الجسد من جهة، و”الروح” في الأخرى. جسد منهك، وروح لم تولد بعد. الغموض سمة هذا الفن، لا بل الغموض هو صفة الحقيقة المتلاشية في عتمة المنبع وفي النور المنتظر، والفن هو الطريق طبعا.
اللافت أن نيتشه ينتبه إلى منطق فاغنر باعتباره عُصابا، ملتقطا ملمحا حساسا للغاية: العفوية والمزاجية وحرية الإرادة (صيحات الفن الحديث برمته)، التي توحي بها موسيقاه، هي فعليا بلا موضوع، حرية عقيم إذا صح التعبير “زيغفريد (بطل أوبرا فاغنر) يحرر المرأة.. لكن دون أمل في نسل”.
ولأنها حرية بلا موضوع فهي مستعبدة تماما داخل نظام للتكرار. “كلا لم يكن فاغنر عبقريا “ذا نواقص”،، “غير موفق”، أو “متناقضا”، كما قيل عنه. فاغنر كان شيئا كاملا، نموذجا للمنحط، لا شيء لديه من “حرية الإرادة” وكل شيء فيه محض ضرورة”. إنها عفوية تسبقها فكرة عن العفوية،، حرية تسبقها فكرة عن السلام النهائي أو السقوط.
الفن كتعبير يعيد إحياة مشكلة الحقيقة في ضوء جديد تماما. ما الحقيقة؟ نعم، إنها ملامسة القاع انتهاء التعبير نفسه، اللقاء الختامي بصورتنا، الاجرام البطولي لتاريخ يتحرك إلى الأمام أو الخلف، أو يطابق ذاته في النهاية.
الحقيقة هي المجانية الفيزيائية عينها، القوة الغفل المصممة على هيئة معادلة، المجانية اللاإشكالية هذه التي لا تختلف عن العدم إن لم تكن هو بالتحديد. تاريخ الحداثة كان إحالة الوجود الإنساني خارج الإنسان ذاته، الحقيقة تخلق المسافة الفاصلة ومعها يولد التاريخ المقرر سلفا. تعلق حنة أرندت تعليقا حاذقا على هيجل باعتباره لم يكتب إلا في التاريخ، لم يكتب إلا تاريخا، تاريخ زائف بالطبع بقدر ما يكون البشر أدوات تحققه.
هل مات التعبير؟ وبمعنى آخر هل انتهت المسافة الفاصلة التي كان عليه أن يملأها؟ هل تطابقت الذات مع حضورها؟ ليس هذا عسيرا على الفهم فحسب بل مستحيل. انظر إلى حجم “الأنا” في أي حوار فني كنوع من الإسناد. في نظرية التعبير لا تكون اللغة إلا “قوة”، نوعا من العنف المكمّل والمعبر عن العجز في الوقت ذاته. “لن تفهمني” هي الشعار الأساس لـ”المعبر”. لغته شعرية ليس بمعنى الجمال، إنما بمعنى البدائية المقبلة على الصمت.
يحاول الفنانون إثبات أن إنتاجهم يستند فقط على رغبات، غالبا رغبات لا يجيدون الإفصاح عنها، أو يتعمدون إظهار عدم القدرة الإفصاح. إن العيّ جزء أساسي من فكرة التعبير.
لدينا ممثلون تركوا على خشبة المسرح، لكنهم فقدوا الذاكرة قبل المسرحية تماما، يؤدون دون أمل، دون أن تكون للأداء ضفة أخرى، مجبرون على الأداء كما لو في سجن.
توفر مواقع التواصل صورة نموذجية من هذه التعبيرية الجديدة واليائسة.
إنهم ضيقوا الصدر إلى حد بعيد بأي نقاش، لأنهم بلا ذاكرة، بلا ذاكرة لغوية خصوصا.
يلفت نيتشه الانتباه إلى تنكر “التعبير” للموهبة، للحرفية كميراث ثقافي، أي للتراث الخاص بالفن نفسه، فالغاية أهم، اللغة معير، طريق ندوسها ونطويها، طريق مربكة ومعطلة ومثيرة للقلق، مرآة غير قابلة للتمزيق. إذن فلنلق بأنفسنا في المرآة نفسها دفعة واحدة.
الممثل الممثل
الفن التعبيري ممارس اليوم على صعيد واسع، لا يهم المهارة، الخبرة (أو هما كلمنان منتزعتان تماما من دلالتهما التاريخية). أنا تساوي أنا، أصبحت نوعا من الترجمة الرديئة للمساواة السياسية. أهذا ممكن فعلا؟
هنا يظهر العجز الكبير. فالأنا بحاجة إلى شاهد: الجموع هي الشهود، أنتم يا من على صفحتي مجرد شهود. قابعون هناك في ظلمة المسرح. ينتابني الشك فأصرخ وأهين، لا أمل لي في العودة.. العودة إلى أين؟
يتشكل وسط من الرياء أسوأ بكثير من الرياء البرجوازي الذي تصفه روايات القرن الـ19.
طلب الدعم الصامت بأي ثمن. ابقوا هناك.. ابقوا لحظة أخرى. لأجل الجمهور أستخدم اللغة نفسها العبارات المتفق عليها “فشخ”. المعايير التي أعرف سلفا أنها ستهيج الحشد.
هنا نجد جانبا آخر من تطور نظرية التعبير.
تشير أرندت إلى ما تسميه “الابتسارات” في بحثها “مقدمة في السياسة” إلى شيء أشبه بما نجده في الفن وفي حوارات المجال العام على السواء، بما فيها الجدل السياسي.
لا تقدح أرندت في “الابتسارات” مطلقا بل تعتبرها المرادف لإحياء المجال العام. فالمساهمة بالإدلاء بالرأي هي ما يشكل المجال العام فعليا. ولكن ماذا حين ينطبق الرأي على “الحكم”، أي يصبح الرأي حكما؟ يصير الرأي حكما حين يكون إناده نهائيا إلى الذات. أي يفتقد العنصر القصصي المنطقي الذي أشرنا إليه في محاضرات جي ديفيد فيلمان. لا قصة للرأي، أنا القصة.
لكن ثمة جانبا آخر للابتسار؛ إنه القانون.
ثمة سعي حثيث وراء تقنين الوضع البشري، أي إسباغ الشرعية المطلقة على وضع استثنائي وإشكالي أصلا. حدث هذا مؤخرا وبشكل تنفاسي لافت ودال من السلطة ومن المجتمع المدني على السواء. قانون لمنع التظاهر يقابله قانون لمنع التحرش. الحكومات والمجتمع المدني كلاهما يفتشان في أضابير القوانين عن الاستثناءات حتى يصير القانون متطابقا كله مع الاستثناء. حالة طوارئ دائمة للوضع الإنساني. القانون ينبسط على الحياة ويصبحان شيئا واحدا هشا وصلبا أيضا. الطابع الحمائي واضح في كلا الاتجاهين، حماية الدولة، وحماية الجسد. في القصة الشهير لتشيكوف التي تحمل اسم “الرجل الذي عاش في قوقعة” ثمة عبارة شهيرة كانت تتكرر “نرجو ألا يحدث شيء”. الحياة بنيّة التحفظ من الحياة. لم تعد قضية الحرية الجنسية ولا فكرة الدولة مطروحة للنقاش، إلا بالطبع على مستوى مخصوص جدا، ولا يكاد يسمع.
الشكل المقنن للحياة والسياسة معا، والذي يتجاهل الوضع السيادي الجذري، العتبة التي تفصل الحياة عن القانون وتجمعهما أيضا والتي عندها نتوقف ونسأل، لأننا بطبيعة الحال لا نعيش فقط من أجل تطبيق القوانين، أقول إن هذا الشكل يفتح الباب لعنف أخرق خارج القانون، عنف سيادي لا معيار له ولا رادع.
المسافة المختزلة بين المعنى والتعبير، بين الذات وقولها، تشبه إلى حد بعيد اختزال المسافة بين القانون والحياة.
على الجانب السياسي أيضا ثمة شكل آخر من نهاية التعبير، هو نهاية “التمثيل” السياسي.
فالسياسي لم يعد يهتم بتمثيل “الشعب”، ولا السياسة بتمثيل الإنسانية، بل بإيقاظ نوع من “الأنا الجمعية” في أشد صورها بدائية، وهي “أنا” لا تستعيد، مثلما تُفسر خطأ، نوعا من الفاشية، أو الاعتزاز القومي، بل شخصنة معممة وحسود، لا تتماهى فيها الحشود مع صورة زعيم حاضن للجماعة، بل المعبر عن صورة من تماسك “الأنا” الفج والوقح. وهكذا صار بإمكان الجميع أن يكونوا سياسيين، واستثنايين، مع بقاء السياسة والاستثناء بلا موضوع.
هيا نشترِ شاعرا
يدخل الفن، الذي هو عمل تخييلي بالأساس، حقبة جديدة مضادة للتخييل نفسه. اتسم الفن الحديث بالشكوكية، وبالحذر تجاه خطابات اللغة والصورة الشائعة، بدا نقديا بعنف لازدواج الجمال/ والحقيقة. نصادف اليوم فنا موضوعاتيا يتكئ على قيم أخلاقية معيارية: من أجل أطفال العالم الثالث، دعما لإدماج المهاجرين، تسجيلا لفظائع الحروب، معاناة المطالبين بالحرية تحت نظام قمعي. الأهم والأسوأ فن ينتهج تخييلا وظيفيا، فن من أجل الصحة النفسية، من أجل الاسترخاء والتأمل في لاشيء. تنتزع “ثيمات” الأداء من بيئتها وتريخها، كنوع من الترصيع والتأنق الأخلاقي، ومن هذا الباب يدخل الفن في شكله البرجوازي الجديد الملائم للنخب التي تتعيش من معونات المنظمات غير الحكومية أو الجوائز الثقافية والفنية. ولا يعني التأنق هنا حفاوة بالحياة، بل إنه (للمفارقة) تأنق فوق جسد العدمية نفسه. لهذا لن تلامس فيه تلك الثورية التي كانت تميز الفن حتى أواسط القرن الماضي، بل تعقل وضبط وتحبيذ لاحتراف خالص. يفقد الخيال معناه باعتباره أصلا أونطولوجيا، أي مبدأ للوجود الإنساني، ووسيطا دالا وإشكاليا، في الوقت نفسه. تفقد فكرة الانعكاس جذورها الفعلية، فالوقوف أمام المرآة لا يمثل صدمة التعرف: أهذا أنا؟ المرايا معدة سلفا ونحن انعكاس لها، شخوص من روايات فاقدة للسيطرة على أدائها ومصيرها.
إن هذا لا يعني تسليعا للفن، (لقد صار ذلك أمرا طبيعيا منذ عهد بعيد) بل للقيم التي تماهت به باعتبارها مربحة، يمكنك أن تكون نبيلا وأن تكسب أيضا.
الروائي البرتغالي أفونسو كروش له رواية صغيرة أخرى تحمل عنوان “هيا نشتر شاعرا”، حيث نعيش في مدينة مجهولة أصبحت لا تتعامل إلا بالأرقام، والساردة في الراوية، والتي هي ابنة لصاحب مشروعات، لا تصف مشهدا أو شعورا إلا مستخدمة وحدة قياس ما.
في المدينة ثمة فرصة للحصول على شاعر أو تشكيلي يلحق بالأسرة كما طائر في قفص. هكذا تتحصل أسرة الفتاة على شاعر وتترك له مساحة صغيرة في منزلها للعيش. كل الصفات المسندة إلى الشاعر ترسم أيديولوجيا كاملة فجة للفنان: البريء، شبه المغيّب عن العالم لكنه الناطق بالحكمة الملغزة، المهمل، خارج الزمن، المتقشف. الأهم هو تركيز الساردة على فكرة “المجاز”. هنا ثمة تصور بسيط وبدائي عن كون اللغة مقسومة: تلك اللغة المحايدة غير الإشكالية التي يطل منها الواقع مرقوما، والأخرى المقرونة بالحلم والالتباس والخيال.
لا يبدو المجاز هنا انخراطا في العالم بل عالم مواز، وكأن بأمكاننا أن نكتب “شباك” على الحائط، وفي اليوم التالي نتنسم رائحة البحر. وكمجنون القرية يعيد الشاعر النصاب لـ”المشاعر الإنسانية”. المدهش حقا، مع أنه بدا كما لو كان نتيجة طبيعية جدا، هو الملحق الخطابي (الخطابي حرفيا لا مجازا) المذيلة به تلك الرواية القصيرة جدا: حافظوا على الشعراء، احترموا الثقافة لأنها يمكن أن تدر مالا وتساهم في الدخل القومي العام. يورد أفونسو كروش إحصاءات وبيانات حقيقية عن الجدوى الاقتصادية للأدب.
المجاز في عرف أفونسو، وعموم ثقافة الحداثة، “خطأ”، لكن “الخطأ القريب من اللانفعية وكلاهما له دور فعال في الإبداع، لإنه يشبه فكرة النفي الفلسفي. لكن الجديد، أو بالأصح الذي كان قابعا وأعيد اكتشافه، أن غياب النفعية في العمل الفني لا يحجب عنه البراجماتية، فالمبدع قد لا يكون في نيته ربح نقود من وراء عمل فني (الفن له عادة غاية لذاته) ولكنه قد يكون منتوجا تجاريا ناجحا” كما يكتب أفونسو. هذه حكمة صائبة تماما ومشروطة بمقدمتها التي يلقيها عن طيب خاطر؛ فـ”الفن لذاته” هو بالذات الوجه الآخر للبراجماتية والنفعية.
لغة الفن ليست لغة مفارقة، ليست نصا فرعيا ولا هامشا، إنها كشف عن مجازية اللغة العملية نفسها، إنها ما يسكن داخل اللغة اليومية، ما يحاول ملامسة الاستحالة التي تتضمنها هي نفسها، ما يؤكد كونها وسيطا لا يمكن تجاوزه.
يتصور أفونسو ان ثمة لغة شفافة هي اللغة النفعية المرقومة، أن الرقم نفسه ليس مجازا، والواقع أن “الشفافية” والانكشاف الكامل للعالم هو هاجس، لا التنوير الأوربي فحسب، بل يعود إلى زمن أسبق ظهرت فيه فكرة “النور” والشمس والمرآة عناصر مركزية واستعارات كبرى للحقيقة. (في كتاب “فلسفة عصر النهضة” لإرنست بلوخ مشهد حي لتلك الصور)
إذا كان ما يجب أن تقوم به الكتابة الآن لقراءة حياتنا هو شيء على غرار الأدب، فهذا لا يعني الصنعة الأدبية ولا الخضوع للنوع الأدبي، بل إدارك أننا نسرد، حتى لو بدا الكلام نظريا، نحن نصنع حكاية لا تضع نفسها قبالة الواقع كأنه شيء يمكن انكشافه وفضه خزانته مرة وإلى الأبد. وهي حكاية بالمثل لا تسير بموازاة الواقع مع استحالة اللقاء به، ما يجعل الأدب مجرد استطراد بلاغي، نوعا آخر من العنف لتأكيد الاستحالة. ليست غاية الكلام انكشافا أيضا أو ملامسة للقانون الذي جعل الكلام نفسه ممكنا، نقطة العماء التي أطلقت أصواتنا، اللغة كصيغة رياضية تتلاعب بنا وتجعلنا نبدو كما لو كنا نتكلم، بينما يتكلم شيء آخر من وراء حناجرنا. هذا الافتراض بدا دائما وكأنه إصرار على تجاهل الآخرية الفعلية التي تجعل الكلام ممكنا؛ آخرية المخاطَب. ومن ثم فليس غرض الكلام ارتداديا لاكتشاف “أصل”، بل هو يخلق إيناس الحاضر، ويطور من الطبيعة العلائقية المتشابكة للبشر، إن الكلام يتقدم إلى الإمام ليس إلى غاية، يتقدم دون أن ينفي، بل فاتحا ممكنات وإشكلات جديدة، إنه لا يتقدم، وفق المنطق الهجيلي، كما لو ليلامس مستقبله في صورة نهائية. تشبه الهيجيلية هنا كلباً يحاول قضم ذيله، يتقدم بنية ارتدادية. ولهذا بالذات بدا عند لحظة ما مجرد فضيحة.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”