كتابات خاصة

بأضعفنا..

عائشة الصلاحي

مع ذلك يظل الجمال السبب الثاني لشهرتها، فالبشر لا يجذبهم الجمال كثيراً كما يجذبهم الغموض و الرعب فالغابة لها تاريخها المخيف داخل اليابان وخارجها، سمعة الغابة السيئة جعلتها مادة لعدة قصص وعدد كبير من المقالات والبحوث وأيضًا الأفلام السينمائية..

غابة (أوكيغاهارا) من أجمل الأماكن الطبيعية في اليابان وأشهرها عالمياً، لجمال الغابة سبب كبير في شهرتها فاسمها يعني بحر من الأشجار حيث تبدو للناظر من فوق جبل فوجي العظيم وكأنها محيط لا ينتهي من الأشجار الخضراء المتدفقة بقوة نحو سفوح الجبال البركانية هناك..

ومع ذلك يظل الجمال السبب الثاني لشهرتها، فالبشر لا يجذبهم الجمال كثيراً كما يجذبهم الغموض و الرعب فالغابة لها تاريخها المخيف داخل اليابان وخارجها، سمعة الغابة السيئة جعلتها مادة لعدة قصص وعدد كبير من المقالات والبحوث وأيضًا الأفلام السينمائية..
ويرجع كل ذلك إلى أن الغابة هي المكان الأعلى في عدد المنتحرين داخلها حيث تتكتم السلطات على العدد الحقيقي لكنه بالتأكيد كبير واستثنائي إلى درجة جعلت الحكومة تُسيّر دوريات يومية للبحث عن أناس يُحتمل دخولهم للغابة بهدف الانتحار وإقناعهم بالعودة وطلب المساعدة المختصة.. المحزن أن الدوريات صار معظم عملها يتركز على انتشال الجثث من بقاع الغابة المختلفة..
قد تتساءل.. ما المرعب في القصة فالغابة لا شأن لها بكون البشر يفضلونها مكان للانتحار؟
تساؤل جيد إنما الحقيقة أن الغابة نفسها هي من تحرض البشر لارتكاب الانتحار فالقصص المتواترة والحكايات المتكررة تتحدث عن هلوسات وخيالات تصيب كل من يتوغل في الغابة، تلك الهلوسات أغلبها سيء جداً وحزين ومرعب لدرجة تفقد الشخص توازنه العقلي والنفسي وتدفعه للانتحار خاصة لو كان عنده استعداد مسبق كأن يكون محبط أو حزين أو حانق من شيء ما.. ومن منا ليس كذلك؟!!
المجتمع الياباني يؤمن أن هناك شيء خارق للطبيعة في تلك الأحراش الجميلة والكثيفة فكل الدلالات تشير أن هناك في قلب الغابة ما يخدع المرء ويستدرجه لفعل أشياء مرعبة وسيئة بنفسه وبمن يصادفهم، العلماء حاولوا إيجاد تفسيرات منطقية فالتربة البركانية في الغابة مفعمة بالحديد المغناطيسي الذي يعطل البوصلة والاستقبال اللاسلكي ويجعل المرء في عزلة كاملة وحالة أقرب إلى المتاهة المغلقة عليه؛ لذا -علمياً- يعمل ذلك على اختلال استقراره النفسي والعقلي، ومما يزيد الطين بلة أن هناك إنبعاثات غازية من بعض أنواع الفطر والطحالب وفجوات التربة في الغابة تسبب تغيرات كيمائية في مخ الإنسان مما تسبب الهلوسات السمعية والمرئية.. هكذا فسرها العلماء ولكن الحقيقة أبعد من مجرد هلوسات وأحداث غامضة فالتاريخ الياباني يحكي قصة هذه الغابة وهو ما يجعل الأمر جدير بالتأمل..
ففي العصور القديمة حين كانت المجاعات تضرب مساحات واسعة من القرى وينتهي الطعام كان الأهالي يقومون بما يسمىUbasute)) وتعني أنهم كانوا يُخرجون المرضى والمقعدين وكبار السن إلى تلك الغابة ويتركونهم هناك للموت جوعاً وبرداً وحيدين، كان ذلك التقليد متبع في كل المنطقة وكانت هذه الغابة المكان المقصود لمثل هذه الطقوس الوحشية، والعذر أن الطعام لا يكفي إلا للعاملين والفلاحين ولذا لا يمكنهم الاحتفاظ بهؤلاء العجزة والضعفاء، وحسب الأساطير اليابانية فإن هذا جعل الغابة مسكونة بالأرواح الحزينة والغاضبة وكذلك ما يسمونه “الأروا” وهي أطياف شريرة شيطانية كما يعتقدون، تلك الأرواح والأطياف تظهر للأشخاص في عزلتهم وتعبث بذكرياتهم وتفكيرهم حتى توصلهم للهاوية فينتحرون أو يقتلون من يجدون حولهم في حالة جنون مؤقت..
ربما نتفق مع ذلك التفسير العلمي أو ربما نصدق تلك الأساطير وربما نرفضها كلها ونبحث عن رؤية أخرى خاصة بنا لكن لا يبدو أن ذلك هو المهم في القصة بكاملها، المهم هو حقيقة أن البشر يتحولون إلى كائنات بشعة جداً تقتل بعضها البعض بعذر المجاعة أو نقص الطعام أو بغيرها من الأعذار الزاخرة في مخيلة وعقلية البشر المريضة، الغابة شهدت هذه المأساة والأماكن تكتسب طاقتها من الأحداث التي تحصل فيها لذا فتلك الغابة صارت أقرب للمكان الملعون المسخوط عليه، مما يجعلك تتساءل كيف يمكن للبشر فعل تلك الفظائع ببني جنسهم؟؟!!
كيف يمكنهم الاستمرار بالعيش بعد أن يتخلوا عن أقاربهم ومعارفهم الضعفاء بهذه الطريقة المأساوية؟؟!!
أين تذهب ضمائرهم؟
لم يكن ذلك التقليد موجود في اليابان فقط فالتاريخ يحكي لنا أن العديد من القبائل الأفريقية كان لديهم طقوس رأس السنة حيث يأخذون كل كبار السن والعجزة والمرضى في القرية ويضعونهم في أعلى شجرة في القرية ويهزونها هزاً عنيفاً ومن يسقط منهم يموت ومن ينجح بالتشبث تُكتب له سنة جديدة معهم و فلسفتهم في ذلك أن لا فائدة من الاحتفاظ من أشخاص ميؤوس منهم، يا لها من فلسفة جعلت البعض يرى نفسه إله يقرر من يحيا ومن يموت وكأن هذه النفوس ملكهم!!!
لم تكن تلك الفلسفات المريعة حصرية على المجتمعات البدائية فالإبادة الجماعية للمرضى والمعاقين والكبار وغيرهم من ذوي الحالات الخاصة حصلت أثناء الحكم النازي، لقد تم إحراقهم في غرف الغاز حسب الروايات التي تناقلت أن ذلك كان جزء من فلسفة تصفية العرق البشري من نقاط ضعفه التي تعيقه ليبقى الأقوى فيتناسل ويعمل و ينتج..
النهضة الأمريكية في القارة المكتشفة كانت على أنقاض هؤلاء الضعفاء الذين لم يجدوا فيها أدنى مستوى من الرحمة أو الرعاية.. لتنقرض أعراق بكاملها بدعوى أن القارة لا تكفي للجميع والأقوى يأخذ كل شيء.
لا بد أنك تشعر بالاستياء وربما الاشمئزاز من تلك الممارسات البغيضة والسؤال الأصعب ألسنا كلنا نمارس هذه الفظائع بدرجات متفاوتة بعذر الوضع الصعب والظروف القاسية؟
أنت شخصياً لا تعطي رغبات أمك الضعيفة أو زوجتك المسكينة كرغباتك من الصرف المادي فأنت من تنتج و لديك أنت الدخل المادي لذا فرغباتك و احتياجاتك وربما ترفيهك أهم من رغباتها وحاجاتها.. رصيدك في التلفون وموائدك الفاخرة بالمطاعم وربما إدماناتك بمختلف أنواعها هي الأولوية لصرفك فأنت صاحب الدخل.. أنت المسيطر.. فلماذا يعترضوا؟
وأنتِ لديكِ ممارساتكِ القمعية مع أختكِ الصغرى أو مع طفلكِ.. أنتِ الأقوى لذا لا تبررين أفعالك ولا تعتذرين وليس من الداعي إيفاء وعودكِ فكل اهتماماتهم هي مجرد هراء لا أهمية له، أنتِ من تعملين وأنتِ من تملكين القدرة لذلك الأولوية في قضاء وقتكِ في الواقع الحقيقي أو الافتراضي كما تشائين والمبرر أنكِ تتعبين في العمل وتحتاجين لشيء يروح عنك.. أليس كذلك؟
قد نعتقد أن هكذا تصرفات لا يمكن مقارنتها بما سبق ذكره لكنها نفس المنطلقات والفلسفة ذاتها.. التخلي عن الضعفاء  ليفعل الأقوياء ما يحلو لهم، الأولوية لهم والأسبقية لهم لأنهم ببساطة هم أقوى من غيرهم وكلما كان الشخص أقوى جعل له هذا مبرر لممارسة النظرة الدونية والإقصاء على ما دونه من الأضعف.
ويزداد الأمر سوءاً و تفاقماً حين تتكسر قيم نفوسنا الهشة في ظل ظروف الحرب والكوارث والاضطرابات الاجتماعية لتكشف الأيام عن ممارسات مروعة ضد الضعفاء في المجتمع فتجد المسنين والمعاقين والمرضى المقعدين في الشوارع يتسولون أو في زاويا البيوت يتعفنون بلا رعاية ولا اهتمام حقيقي.. لقد تخلى عنهم الأقربون وتخلى عنهم المجتمع الظالم الغارق في أتون الصراع و التنافس..
لعلنا لا نمتلك غابة كغابة (أوكيغاهارا) لنرمي فيها هؤلاء المستضعفين لكن هناك غابة في كل بيت وغابة في كل حارة يتعفن فيها هؤلاء حتى الموت وحيدين مفطوري القلب..
إن لعنات أرواح هؤلاء هي ما جعلت الحياة أكثر ظلامية في أعين الجميع فالحياة مثل كرة مغلقة كل ما فيها يختلط مع بعضه البعض ولا يتسرب منها شيء.. لا يمكن أن تكون كل تلك القلوب المفطورة و الخواطر المكسورة بلا تأثير على مستوى حياة هذا العالم القاسي، وكما قيل (لو كان هذا العالم بطن حوت لكان أرحم مما نحن فيه).
بطن الحوت احتوى دموع وانكسار أحدهم واحتضنه حتى جاء الميعاد للفرج فلماذا لا يمكننا أن نرعى بعضنا البعض كلما اشتدت الكروب علينا حتى يأتي الفرج؟!
لماذا نهرع للأنانية والقسوة والخيانة لبعضنا حالما نجد في أنفسنا القوة على ذلك؟؟!!
إن مما لا شك فيه أن مستقبل الشعوب يُقاس بمستوى رعاية الضعفاء والكبار فيها، فالشعوب الناكرة للجميل السابق من هؤلاء والمتنكرة لكل ذوي الحاجة هي شعوب ملعونة وعليها سخط السماء ومن في الملكوت، تلك شعوب لا مستقبل مبشر لها ولا حاضر هنيء..
وكما علمنا المصطفى بسيرته وإرثه الحضاري بأننا قوم نسير بسرعة أضعفنا ويباركنا الله بالمساكين منا ويجير فينا الأدنى وما فينا دني..
يتساءل عقلك عن الصواب والفرج من هذه الأزمات المتلاحقة…؟؟
ها هنا البداية..
بلا شك هي كذلك..
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى