كابوس السجن يستمر في حاضر قاتم، تجربة السجن تستمر في تجربة أسر لشعب بكامله خطوة داخل الحلم، هكذا بدت زيارتي لفلسطين المحتلة. من المفارقة أن “خطوة في الحلم” هو عنوان لأحبّ روايات الكاتب إسماعيل فهد إسماعيل إلى نفسي. غادَرَنا بينما كنتُ أحزم حقيبتي متوجهة إلى عمّان ومنها إلى رام الله، مروراً بكييف.
كانت رحلة طويلة منحتني وقتاً كافياً كي أسترجع خلالها أجمل كلمات الروائي المكتوبة لي بقلم الرصاص، ولألقي بمحمولاتها العاطفية في مجرى الحزن الفائر الجاري في داخلي لأغيّر مسارَه، وأجعله يصبّ في بحيرة بعيدة وفية لحين.
كان عليّ أن أتماسك وأتحكم بمشاعري في سفرة توقعت أنها محملة بأحزان فلسطينية مرّة، وبمشاهد تحتاج الى أن أوسع فيها زاوية النظر أكثر من طاقة الحدقتين، وأن تكفّ العين عن أن تدمع في كل مرة أشاهد فيها أطفالاً ينشغلون عن الحبس باللعب والصياح خلف جدار كونكريتي مرتفع.
لعلّ خالد الناصري، الناشر والصديق، فعَلَ الشيء نفسه مع حزنه. كنا، وفد المترجمين والكتّاب، في الطريق إلى كنيسة المهد جنوب الضفة في بيت لحم، عندما وصله خبر وفاة صديقه الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة، فاختفى عن نظرنا قليلاً من الوقت. احتاج أن يكون وحيداً لكي يتماسك ويستوعب صدمته للخبر.الكاتبة في متحف محمود درويش
في الكنيسة، حاولت أن أطابق الصورة التي عندي عن المغارة التي لا تتجاوز المتر المربع التي قيل إنها شهدت ولادة المسيح والأصل الذي أشاهده. شعرت بزمنين مختلفين يدفعانني نحو طفولتي، نحو بيتي الأول، وحلمي الأول. فكرت بأن سلامة كيلة كان يحلم بزيارة بير زيت، مسقط رأسه، لكنه مُنع وظل بعيداً عنها. مسحتُ بيدي في تيهٍ وتردد النجمة الفضية في أرضية المغارة، كذلك فعل من كان من حولي. كان الكهنة يحومون من حولنا، يمسحونها بين الحين والحين بزيت عشبة الروزماري، ويحثّوننا على مواصلة السير مسرعين لفسح المجال للوفود التي اكتظّ المكان المقدس بهم. ظلّت رائحة الزيت عالقة بأصابعي لفترة طويلة.
خطوة داخل حلم.. وفلسطين حلمي أنا، نقي، موصول بطفولتي ونشأتي، رومانسيتي، قصائدي، إيماني، حلمٌ قديم لم تعكره الأحداث والملابسات، يقفز على النكبات والحروب والانتكاسات، يقفز على أوسلو والانشقاقات ومحاولات المصالحة وحجر المخيمات. حلم بدا في هذه اللحظة قريناً لرؤى صائغٍ شاب من رام الله صمّم خاتماً سمّاه “سيدة الأرض”.
يطوّق الخاتم إصبعي تذكاراً، أديره، أتمعن بتفاصيله، فأسيح متنقلة ما بين قبة الصخرة في القدس، ودوار المنارة في رام الله، والحرم الإبراهيمي في الخليل، ميناء غزة، كنيسة القيامة في القدس، قصر الخليفة الأموي هشام ذي النجمة السداسية في أريحا، خان العمدان العثماني في عكا، وبرج الساعة في نابلس.
أعدت وزارة الثقافة الفلسطينية بالتعاون مع منشورات المتوسط برنامجاً غنياً للمترجمين والكتّاب الذين جاؤوا من دول مختلفة في العالم. كان الجميع يريد رؤية ما جرى سماعه، كلهم باتوا عيوناً، ما يدور هنا في “سيدة الأرض” لم يعد أخباراً بل مشاهد تصفع وجوهنا ورؤوسنا. المُعاش يختلف عن المقروء والمسموع. الصور الذهنية التي نمتلكها عن المكان الفلسطيني المتشظي بالأسوار والحراسات تستعيد حسيّتها مع الرعب والقلق.
ما نشاهده يحل بالجسد المرتعش، عدائية مجنّد إسرائيلي يشهر رشاشه عند المعابر، وعند مفترقات الطرق، ولسوف تعرف أنه وراءك وأمامك. ولسوف تعرف عن طريق النظر إلى لائحة متعسفة بوجود تسميات رمزية للمناطق: (أ) و(ب) و(ج). كل منطقة تفرض سلوكاً وتوقعاً. ولسوف تتعرف على نحو يشبه الصدمة والارتطام على الحجم الحقيقي لجدران العزل التي كنت رأيتها في الصور الفوتوغرافية. جدران صماء تحيلك إلى الخرس والانقطاع والعزل والاختناق.
على سائق السيارة الفلسطيني أن يكون منتبهاً على الطرق، فله طريق وللمحتل طريق، لكن كل الطرق يمسكها المحتل، وبإمكانه أن يقفلها خلفه أو يسدّها أمامه. سينتظر اشتعال الضوء الأخضر لمدة ربع ساعة كي يعبر لأنه خرج من منطقة فلسطينية في القدس، ولسوف ترتفع الأسلحة بوجهه أينما ذهب.
هذا ما رأيناه في تجوالنا في أرض فلسطين، انتظار الضوء الأخضر، وجود رقابة من أعلى وأسفل، أسلحة مشرعة بوجوهنا، استفسارات، أوراق، وأينما ندير رؤوسنا في أي اتجاه نرى أسلاكاً مكهربة، وكاميرات مراقبة عند حدود المستوطنات التي احتلت وسط بعض المدن الفلسطينية كالخليل. ذكرتني الخليل بساحة سجن مفتوحة مسوّرة تحت أبراج الحراسة المشددّة يُسمح فيها للمساجين (الفلسطينيين) بالتمشي والتهوية لساعة أو ساعتين نهاراً. إنها سياسة عنصرية تعمد إلى انتاج جسد مقطّع -معازل فلسطينية- تهدف إلى سحق الفرد وإلغاء وجوده.
في مدينة نابلس لمست الدفء الفلسطيني، فقد هلل أهل نابلس الطيبون لي ما أن علموا بعراقيتي. حصدت الكثير من القبلات من الأمهات، وسلاماً حاراً من شيخ، وفنجان قهوة عربية هنا، وتفضلوا هناك ووو… تعلو الضحكات والتحايا والدعاء بالأمن والسلام للعراق (المضاع). وأراني صامتة إزاء صورةٍ لصدام إلى جانب عرفات على واجهة أحد المحلات التجارية القديمة. لا بأس. ليس هذا أوان الجدال!
ضمن ندوة أقيمت بمناسبة افتتاح المكتبة الوطنية الفلسطينية وانطلاق فعاليات مهرجان ملتقى فلسطين للترجمة، استمعت إلى أحدهم يطالب بجمع الأدلة لنقاضي إسرائيل. شعرت بالحزن؛ هل نحتاج الى مزيد من الأدلة لقضية هي الأكثر عدالة في العالم أجمع؟ والحال أن القضية الفلسطينية العادلة تمر في مرحلة يصمت فيها العالم، بما يدعم ويقوي جدار العزل العنصري الأصم.
في هذه الندوة جرى الحديث عن الكتاب الذي صدر عن “مدار”، المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، بعنوان “إسرائيل والأبارتهايد” تضمن بحوثاً تدور حول مقاربات ومقارنات بين طبيعة القضية الفلسطينية وتاريخ الاستعمار في كل من فلسطين وجنوب أفريقيا. كنت أتطلع إلى وجوه المستمعين وأرى فيها الصعوبات نفسها لمحنة هذا الشعب المناضل الذي يبحث عن مخرج ولا يجده.
لكن هناك ما هو أكثر من التضامن، هنا وهناك في هذا العالم، هنا، وسط رام الله ما يجبرنا على الأمل فها نحن نقف عند تمثال مانديلا العملاق، المهدى من أهالي مدينة جوهانسبيرغ إلى أهالي رام الله، تتقدمه جملة مانديلا في العام 1997: ” نحن نعلم أن حريتنا ناقصة من دون حرية الفلسطينيين”.
“مطاردة الأشباح”؛ هذا هو اسم الفيلم السينمائي الذي حضرناه للمخرج “رائد أنضوني”. فيلم اعتمد الروي الواقعي الهادئ لمجموعة من الفلسطينيين الشباب والمسنين الأسرى الذين عاشوا التجربة في سجن المسكوبية بتداعياتها النفسية والجسدية، لفترة تتراوح بين أشهر وعدة سنوات.
كابوس السجن يستمر في حاضر قاتم، تجربة السجن تستمر في تجربة أسر لشعب بكامله. لا فكاك. فلم يبالغ بل يقدم القضية كما هي عن طريق شهادات واقعية. بعد انتهاء الفيلم رأينا شابة يافعة، هي ابنة أحد الأسرى من أبطال الفيلم تدخل باسِمة لتسلّم على أبيها، وكانت هي الأخرى قد دخلت السجن نفسه.
عرض آخر يكتم الأنفاس: في دهاليز فندق “القرد” أو “الفندق المعزول بالأسوار” تسمع الهاتف المثبت على أحد الجدران يرنّ بدقة قديمة مزعجة. تجد عبارة إلى جانبه تقول ردّْ عل الهاتف. تلتقط السماعة فتسمع تسجيلاً بصوت آلي لرجل يعرّف نفسه بأنه الجنرال كذا يطلب منك مغادرة البيت خلال خمس دقائق لأنهم سيقومون بتفجيره.
ذلكم عرض من العروض الكابوسية التي يقدمها فندق القرد عما يجري في المدن والقرى الفلسطينية، هذا التسجيل المرعب حقيقي يتلقاه المواطن الفلسطيني حين تنوي سلطات الاحتلال هدّ بيته. يجري الهدم أحياناً من دون إنذار الدقائق الخمس. شيء مرعب أن تستمع للصوت وتجد إلى جانب الهاتف صورة واقعية لخراب بيتٍ عبر نافذة صغيرة ضمن معرض تضمّن تاريخ الاحتلال وممارساته ضد الشعب الفلسطيني.
جاء مشروع الفندق على خلفية بناء الجدار العازل جنوب الضفة في بيت لحم، الذي يشبه صرحاً فاشيستياً بشعاً ضخماً يقطع جسد المدينة ويشوهها. الفندق علامة مميزة للمدينة، تمّ الاتفاق بين الفنان العالمي بانكسي والمالك الفنان الفلسطيني وسام سلسع بشكل سرّي على تنفيذه.
كانت هناك سيدتان أجنبيتان تحتسيان الشاي بهدوء في بهو الفندق حين دخلنا، تعلو الجو ضربات بيانو تعزف مفاتيحه من دون عازف. ثمة محل هدايا للنزلاء فقط، والفندق يحتوي على تسع غرف يقصدها السياح من مختلف أنحاء العالم. إضافة إلى ذلك هناك متحف صغير في الطابق الأرضي يحوي أفلاماً وثائقية وصوراً وأعمالاً فنية تستعرض تاريخ المكان والاحتلال، إلى جانب اللوحات الفنية والمجسمات التي تعتمد عنصر المفارقة والسخرية المبطنة والتي قام بتنفيذها بانكسي خصيصا لتزيّن الفندق.
يقول وسام سلسع: حين نصبوا الجدار في العام 2002 هبطت أسعار الأراضي من حوله في بلدة هي الأجمل في العالم، وشحّت طرق العمل وانقطعت مصادر الرزق في المنطقة بشكل مخيف. ويضيف: صعب على الناس لفظ اسم الفندق “The walled off hotel” لذا فقد عمد إلى وضع قرد مجسّم عند باب الفندق ليطلق الناس عليه اسم فندق القرد!
في الليلة الأخيرة رافقنا صديق بسيارته في جولة لا تنسى في أنحاء القدس الشرقية والغربية من دون تصريح. يتضوع من البيوت والأزقة والجدران عطر ناعم لفجر لم تتضح معالمه بعد. دهشة ممزوجة بالخوف.
توقفنا عند عربة خشبية عَرَضَ صاحبها فطور الفجر وسط رام الله، المدينة نائمة، الساعة الخامسة فجراً، والصمت يشعرك بأمان كل فجر عشته بطفولتك، لكنك تشعر بالريبة والإحساس بالأسر، ستعالجه بتناول فطور محلي فقير: كعك بالسمسم، بيض مسلوق، زعتر.
في ليلتي الأولى بعد عودتي الى بلد إقامتي في الدنمارك سمعت صوت مطر غاضب يهمي في داخلي. فكرت: هذا من تأثير خاتم سيدة الأرض الذي أحمله!
*روائية ومترجمة عراقية مقيمة في الدنمارك