أسئلة كثيرة تخص الناشر، القارئ، والكاتب نفسه، حول غياب النوفيلا، هل يرجع هذا الغياب الواضح للناشر الذي يفضل الرواية ذات الحجم الكبير التي تباع بسعر عالٍ وبإمكانها اجتذاب القارئ الذي يشغله المنظر بالأساس ثمة ظاهرة باتت واضحة ولم يعد التغاضي عن مناقشتها واستطلاع أسبابها عاديًا، إذ يفتقد الأدب العربي الحديث لشكل أدبي له حضور طاغٍ، وفنية عالية، وكتاب عالميون، حيث إن الأدب العالمي لا يمكنه استبعاد النوفيلا من الأعمال الكبرى التي أنجزتها الإنسانية، غير أن الحظ العربي قليل في خصوص ذلك، دون سبب واضح وكاشف.
أسئلة كثيرة تخص الناشر، القارئ، والكاتب نفسه، حول غياب النوفيلا، هل يرجع هذا الغياب الواضح للناشر الذي يفضل الرواية ذات الحجم الكبير التي تباع بسعر عالٍ وبإمكانها اجتذاب القارئ الذي يشغله المنظر بالأساس، وقد لا تحظى رواية “نحيفة” بحظوظ لديه، هذا القارئ الذي ربما لا تستهويه النوفيلا، لأنها مثل القصة القصيرة، تنتهي سريعًا ولا تجعله يصل لدرجة الإشباع الذي تحققه له الرواية، أم للنوفيلا كاتب من نوع خاص، كاتب لديه فنيات معينة لا تتوافر لجميع الكتاب، وبغياب هذا الكاتب النوفيللي، إن صح التعبير، تغيب معه النوفيلا؟
أم يرتبط السبب بدرجة كبيرة بالجوائز الأدبية، التي انتشرت مؤخرًا على نحو لافت للغاية، وكلها تنحاز للروايات كبيرة الحجم، التي لا تقل عن الثلاثمائة صفحة تقريبًا، وبالتالي فإن صناعة النشر بأطرافها الثلاثة: الكاتب والناشر والقارئ، تخضع لسلطة وسطوة الجوائز، فترحب بالروايات المتخمة، في حين تغض الطرف عن النوفيلا؟
هنا، يتحدث خمسة من الكتاب العرب عن أسباب غياب النوفيلا العربية.
القاص والروائي المصري محمد عبد النبي يقول: “لا أظن أن الأنواع الأدبية والأشكال الفنية عمومًا سلع حيوية لا بد من توافرها في الأسواق ولدى الباعة طوال العام حتَّى لا تتشكَّل أزمة استهلاكية ما، يعني إذا كفَّ نوع أدبي معين عن تلبية أشواق وطموحات بعينها لدى منتجيه والأهم لدى متلقيه، فسوف يختفي بضرورة الحال مهما ناضلت بعض الجهات ذات النفوذ لإنعاشه كما يحدث حاليا مع القصيدة العمودية بالمسابقات المالية الكبرى والبرامج الصاخبة. ومن ناحية أخرى، لا أظن أنه من الممكن أن ينقرض شكل فني تمامًا بقدر ما يتخذ طريقه للاندماج داخل أشكال وأنواع أخرى”.
النوفيلا لم تختف
لا يعتقد صاحب “في غرفة العنكبوت” أن النوفيلا اختفت. يقول إن كثيرا من الروايات التي تنشر في الوقت الراهن ليست إلَّا نوفيلا أو قصة طويلة، موضحًا: “أغلب أعمال الكاتب الراحل محمد البساطي هكذا، ولا يقلل هذا من قيمتها وجمالها، بل ربما على العكس، من حيث عدد كلماتها والخطوط السردية التي تشتغل عليها، لكن عدم الاعتراف بذلك ربما يرجع إلى التكالب على المجد الذي تصنعه كلمة الرواية لكاتبها وكأنها الشهادة العالية وبقية الأنواع شهادات متوسطة، وهذا سخف صاف، أو بسبب كثرة الجوائز المهمة المقدمة لفن الرواية أو احتمال تحويلها لفيلم. ورغم ذلك فبين الحين والآخر هناك بعض الكتَّاب الذين لهم من الوعي والإدراك ما يجعلهم يصنفون عملهم السردي باعتباره نوفيلا، انطلاقًا من فهمهم لخصوصية هذا النوع الذي ينتفع بكثافة القص القصير ويتحرك في مساحات روائية رغم ذلك، أذكر الآن مثلا النوفيلا الجميلة شارع بسادة للأستاذ سيد الوكيل، ومن المؤكد أن هناك غيرها لا يحضرني الآن. الشاهد هنا أنه بصرف النظر عن الكلمة المكتوبة على غلاف العمل الأدبي، يبقى العمل نفسه هو من يدافع عن نوعه وعن درجة انتمائه أو ابتعاده لهذا النوع، أو حتى وقوفه حرًا بين الأنواع جميعًا إذا شاء”.
النوفيلا ليست منفصلة عن الرواية
أسئلة ملحة تفرض نفسها على الكاتب العراقي زهير كريم، حول استقلالية النوفيلا، وارتباطها بالرواية. وهل هذه الاستقلالية أو الارتباط يتعلقان بطول النص من حيث عدد الصفحات، أم لشروط أخرى، كالمفهوم وتأصيله مثلا.
يوضح زهير: “بالنسبة لي لا أجد أن النوفيلا جنس مستقل عن الرواية، وأستطيع أن أقدم ثلاث نماذج نصية. الغريب لـ ألبيركامو، والمسخ لـ كافكا، والحمامة لـ زوسكيند. هذه الأعمال بالنسبة لي روايات ولا يمكن لي تحديد اختلافات وشروط أخرى تميزها، وتجعلها تنفصل كجنس آخر عن الرواية، وفى النتيجة هى روايات، قرأناها على أنها روايات رغم قصرها”. يتابع صاحب “ماكينة كبيرة تدهس المارة”: “أجد أن الغموض رافق مصطلح النوفيلا منذ البداية، غموض ومقاصد لا أعرف ما هي، ربما كان بسبب إيجاد جنس سردي بين القصة القصيرة والرواية. في الواقع، الكثير من الروايات، العربية خاصة، يمكن أن تنتزع منها مئات الصفحات والتي هي عبارة عن ثرثرة لا غير، فرواية من مائتي صفحة، يمكن أن يبقى منها ثمانون صفحة فقط، فتصبح نوفيلا، لكنها في الأصل رواية. إذن، وهذا انطباع شخصي، رغم توفر عدد كبير من الدراسات النقدية بخصوص تأصيل مفهوم النوفيلا. أجد أن الرؤى المنحازة لهذا المفهوم غير مقنعة، ولو كان القول بمفهوم الرواية القصيرة، كان الأمر مقبولا، على الأقل يذهب الأمر مباشرة إلى أذهاننا، إننا أمام عمل له مقاصد سردية واضحة، مرتبط بتاريخ القراءة لكل منا، ولا يعني هذا مقاومة من نوع ما، لرفض تأصيل مفهوم ما يتعلق بجنس أدبي، أبدا، أنا فقط أبحث عن رؤية مقنعة فيما يتعلق بمفهوم النوفيلا، ورغم أن ثيمة النص أحيانا، تفرض على الكاتب لمعالجتها عدد الصفحات من حيث الطول والقصر، في النهاية أنا مع الكتابة السردية والتي تتراوح صفحاتها بين ثمانين ومائة وعشرين صفحة”.
النوفيلا تائهة
ربما تتجاوز المسألة الحالة العربية، وربما أيضًا لسنا في حاجة لتصنيف ثالث، غير القصة والرواية. فعلى أي أساس نقول إن هذه نوفيلا وتلك رواية (قصيرة)؟ عدد الصفحات؟ لا يكفي. بناء الشخصيات والحبكة؟ كذلك لا يكفي، خاصة بعدما تخطّت الرواية بشكلها الحديث شكلَها الكلاسيكي، وقد تكون النوفيلا محاولات لكتابة رواية إنّما قصُرت، أو محاولات لكتابة قصة إنّما استطالت، وفي الحالتين هنالك مشكلة. هذا ما يقوله الكاتب الفلسطيني سليم البيك.
يشرح صاحب “تذكرتين إلى صفورية”: “تتباين القصة والرواية إذ يكون لكل منهما طريقته الخاصة، شكلاً ومضموناً، في طرح فكرته (كي لا أقول الحكاية والشخصيات) ولكل منهما حدوده وأدواته التي تختلف عمّا لدى الأخرى، أما النوفيلا، فهي تائهة بين هذه وتلك. قد تكون رواية تعجّل كاتبها في رؤيتها منشورة، أو قصّة لم يعرف كاتبها كيف ينهيها. وكلامي هذا لا يمسّ الروايات القصيرة.
الروايات القصيرة، التي يمكن أن تكون بحجم النوفيلا، هي حكايات أخذت وقتها لتتخمّر، وشخصياتها لتتطوّر، ولم يشتّت كاتبها أفكاره بأخرى، وقد ضيّق عدسته إلى عدد قليل من الصفحات، إنّما دون أن يُخطئ بنيةَ الرواية فيها.
قد يكون من أبرز الروائيين الذين كتبوا روايات قصيرة تمت تسميتها بنوفيلا، هو النمساوي ستيفان زڤايغ، لكنّ كتبه تُقدَّم كروايات، لا كنوفيلا، ونحن نحكي عن كاتب عاش وكتب قبل قرن من الزمان، وعربياً غسان كنفاني، الذي كذلك لم يصنّف أحدٌ رواياته القصيرة على أنّها نوفيلا.
لذلك، الرواية الجيدة يمكن أن تكون بحجم نوفيلا فلا تتجاوز المئة صفحة، وتبقى رواية، أمّا تصنيف النوفيلا هذا فلا أرى له أي مبرر، فمع قرون من الأدب لم يستطع هذا الشكل الأدبي أن يُقنع بضرورة وجوده”.
زمن النوفيلا
بنفس الأسئلة التي ينشغل بها زهير كريم، يتحدث الروائي المصري هاني عبد المريد، قائلًا إننا في البدء في حاجة لتعريف ما هي النوفيلا، هل هي الرواية القصيرة التي لا تتجاوز الثلاثين ألف كلمة كما قال بعض النقاد، هل هي الرواية القصيرة التي تعمل على حدث واحد، أو شخصيات محدودة، هل كما صنف البعض العجوز والبحر ومزرعة الخنازير والجميلات النائمات على أنهم ينتمون للنوفيلا، إذا كان الأمر كذلك فنحن لم نهجر النوفيلا، بل أن معظم ما يقدم من إنتاج هو في الأصل ينتمي للنوفيلا، متابعًا: “ثم ما العيب في كتابة رواية قصيرة، فأنا على سبيل المثال كتبت حتى الآن أربع روايات، لم تتعد أي منها الثلاثين ألف كلمة، لأنني إذا كنت أحاول كتابة ما أحب قراءته، فأنا كقارئ أميل للروايات القصيرة، الروايات التي تمتلك لغة ورشاقة القصة القصيرة، وفي نفس الحين لديها المزيد من الوقت لتقول الكثير، وتمتلك من الأدوات ما تحفر به داخلك اسمها ببساطة، لذلك دعنا نتساءل من من الكتاب لم يحلم أن يكون لديه رواية صغيرة، ذات أثر عظيم، أعتقد أنك حتى لو كنت من أصحاب الروايات الضخمة، بالتأكيد سيساورك في بعض الأوقات أمنية أن تكتب رواية قصيرة، ذات لغة مكثفة، وتفاصيل محبوكة، وشخصيات لا تنسى، دعنا نتذكر الحرير للإيطالي أليساندرو باريكو، مسيو إبراهيم وزهور القرآن للفرنسي إريك إيمانويل شميت، راوية الأفلام للتشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير، وغيرها الكثير والكثير من الروايات صغيرة الحجم كبيرة الأثر، ما أود قوله إن لفظ نوفيلا، أو دعنا نقول رواية قصيرة ليست سبة، فنحن لا نتعامل مع الفن “بالشبر”، بل لو ركزنا وبقليل من التفكير سنجد أن القادم سيكون للروايات القصيرة للعديد من الأسباب، منها ما يخص القارئ، الذي صار لديه القليل من الوقت، والقليل من التركيز في عالم يعج بالصورة والحركة، أو ما يخص الجانب الاقتصادي، وغلاء سعر الورق على الناشر، وبالتالي ارتفاع سعر الروايات الكبيرة لأرقام يعجز أمامها القارئ، وأخيرًا فالروايات كما تفرض نفسها وفكرتها ووجودها هي أيضًا تفرض الشكل الذي ستبدو عليه، هناك روايات بطبيعة موضوعها، أو طريقة تناولها لا بد وأن تكون طويلة، ولا يناسبها حالة النوفيلا”.
النوفيلا مغضوب عليها لدى الناشر
لا يرحب الروائي والقاص المصري عمرو العادلي بالتصنيفات الأدبية. يرى أنها تقتل الأدب. يقول إن النوفيلا يمكن اعتبارها قصة طويلة: “النوفيلا، أو الرواية القصيرة، بالفعل هي غائبة منذ مدة ليست بالقليلة عن عالمنا العربي، لكن في الكلاسيكيات سنجد مثلا “رجال في الشمس” أقل من مئة صفحة، وهي رواية ممتعة وملهمة، لكن هناك دائما تتراكم أشياء وأفكار لا نستطيع رصدها إلا بالتأني طويلا، فأنا أذكر أنني عندما ذهبت لشراء رواية منصورة عز الدين “وراء الفردوس” عام 2009 استوقفني حجمها الكبير جدا آنذاك، وكانت حوالي 220 صفحة فقط، لكن الآن لو تعامل القارئ مع هذا الحجم سيقول عنه إنه حجم صغير مقارنة بالروايات التي تتعدى أربعمائة صفحة وخمسمائة صفحة، ولكن هناك أسباب في النشر وتجارة الكتاب تتعلق بغياب النوفيلا، فقد قال لي ناشر ذات يوم “مبحبش الروايات اللي أقل من 200 صفحة علشان بتبقى عاملة زي الكراريس فوق أرفف المكتبات ومبتبانش للقارئ” وربما يكون السبب أيضا نابعا من الكتاب أنفسهم، فكل كاتب يريد أن يثبت لنفسه الإبداعية وروحه الفنية من خلال ملحمة وليس مجرد رواية. ولكن على المستوى الشخصي أتمنى عودة هذه البونبونايات صغيرة الحجم كبيرة القيمة، لأنها ستسد فجوة كبيرة وتكمل جزءًا ناقصًا ومهمًا في المكتبة العربية”.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”