آراء ومواقف

بائع الحلوى الذي ألهم الأحرار

*عبدالله القيسي

“اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني” هكذا يغني المصريون، أما اليمنيون فلا يعرف أكثرهم أن صاحب القبس الأول للحرية في ثورة اليمن كان محلويا.. فما حكاية صانعي الحلوى هذين؟ “اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني” هكذا يغني المصريون، أما اليمنيون فلا يعرف أكثرهم أن صاحب القبس الأول للحرية في ثورة اليمن كان محلويا.. فما حكاية صانعي الحلوى هذين؟
العبارة الأولى غناها الفنان علي الحجار في مقدمة مسلسل “بوابة الحلواني”، من كلمات سيد حجاب وألحان: بليغ حمدي. والقصة تعود إلى جوهر الصقلي الذي “بنى القاهرة الفاطمية”، والتي تعود أصوله إلى الأرمن في كرواتيا، وقد ولد وعاش فيها قبل أن ينتقل إلى صقلية التي ذاعت شهرته بها.
وكان يجيد صناعة الكنافة والحلوى قبل أن يباع كمملوك للخليفة المنصور بالله الذى ألحقه بالجيش وترقى فيه حتى صار أشهر قواده ولذلك سمى بالحلواني. وقد تم بناء القاهرة والجامع الأزهر على يد القائد العسكري “الحلواني” وقد جاء قائدا لجيش الفاطميين واسترد مصر من الإخشيديين وقام ببناء القاهرة قبل مجيء الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.
أما محلوينا فهو محمد عبدالله المحلوي الصنعاني قبس الحرية الأول في تاريخ القضية اليمنية كما يقول الأستاذ محمد عبدالله الفسيل في كتابه “نحو النور”، وأول ضحايا الحرية في تلك القضية كما يقول العزي صالح السنيدار في مذكراته “الطريق إلى الحرية”. أول شخيصة عرفها الناس في صنعاء ترفع صوت الحق ، الناقد للوضع الفاسد والمطالب بالإصلاح المجاهد الحر محمد المحلوي هكذا تحدث عنه المناضل عبدالسلام صبره في مقدمة مذكرات السنيدار.
صانع الحلوى الشجاع, الجسور, صاحب القدرة الفائقة على المناظرات العلمية, اللبق, الجذاب, الثائر الذي استمال الكثير من رجال اليمن في عصره إلى معارضة الإمامة, السياسي الذي عدته كثيرا من أدبيات الثورة اليمنية النواة الأولى للثورة على الحكم الإمامي في اليمن، هكذا وصفه د عبدالولي الشميري في كتابه “أعلام اليمن”.
أعرف أن جيلنا لا يكاد يعرف عنه شيئا وهذا ما جعلني أكتب عنه، أكتب عن التنويري الأول، ليس فقط في قضايا السياسة بل في قضايا الفكر أيضا، إنه يشبه إلى حد بعيد أساتذته الأفغاني ومحمد عبده فيما أحدثه مع زملائه من ثورة فكرية كان يُنظر لها بعين السخرية والاستهزاء، وكان يقابلها بابتسامة الواثق بأن ما بذره من حزاوي –بحسب وصفه- ستمثر، وها قد استقطب النواة الأولى من ثوار الفكر والسياسة الذين صنعوا فيما بعد ثورتي 48 و62 .
يحدثه أحدهم: أفنيت عمرك وأفنيت ما تملك أربعون سنة وأنت على هذا الحال ولم تحصل على شيء، فأجاب عليه: قرب وقت التحصيل وإذا لم يصح شيء هذه المرة (ف- حزوية طعيمة) يقصد فزورة لطيفة.. هكذا كان يتحين كل فرصة ليبذر. 
كانوا يقيلون في بيت الحاج عبدالله السنيدار –كما يحكي العزي السنيدار- ويتحدثون في أمور كثيرة عدا شئون السياسة، وكان يتعمد المحلوي أن يتكلم في السياسة فيقابلوه بالسخرية والضحك، وهو لا يتأثر بل يسايرهم في الضحك إلا أنه كان يدرك أن حديثه رغم سخريتهم منه سيؤثر في بعضهم. 
هذا المجلس فيما بعد صار مجلس “الفقاعسة” (أي المشاغبين)  كما وصفه من رفع تقريره عنهم إلى الإمام يحيى وأن غرضهم وقصدهم قلب نظام الحكم، أما الفقاعسة “الثوار” الذين كانوا فيه فهم المحلوي وحسن الدعيس وأحمد المطاع والعزي السنيدار و حسين السياغي وعبدالله العزب وعبدالله سنين وغيرهم.
نشأ هذا “الفقعوس” في أسرة كانت تمتهن صناعة الحلوى, والتحق بالكتاب, وهو في سن السابعة من عمره, ثم التحق بإحدى المدارس التركية التي كانت متاحة في مدينة صنعاء, لكن معارضة أسرته لالتحاقه بهذه المدرسة جعلته يترك هذه المدرسة ويعمل في صناعة الحلوى, منميًّا ثقافته عبر مطالعة كل ما يصل إليه من الصحف والمجلات والكتب حتى تفتح وعيه وازدادت ثقافته, مما أهَّله لحضور بعض المجالس العلمية التركية؛ ومنها مجلس كانت تدور فيه المباحثات العلمية والأدبية, ثم يتحول الحديث فيه إلى معارضة السلطان العثماني (عبدالحميد) وحكمه, مما أتاح له مزيدًا من الاطلاع والوعي, وزاد أن تعرف على تاجر إيطالي قدم إلى مدينة صنعاء؛ فأكثر من زيارته, وأتاحت له هذه الزيارات مزيدًا من المطالعات في التاريخ والفلسفة والعلوم؛ فتعرف على جهابذة المفكرين, وأدرك الحالة المتخلفة التي تعيشها اليمن؛ فتنامت لديه النزعة التنويرية, وسعى إلى إيقاظ الهمم ودعوة الشباب إلى معارضة الظلم, والمطالبة في أن يكون لليمن حظها من التقدم والازدهار.
وحين انسحب الأتراك (العثمانيون) من اليمن, وتسلَّم الإمام (يحيى بن محمد حميد الدين) زمام الحكم في اليمن؛ سعى إلى معارضته جهارًا, وكشف مظالمه, وإبراز مساوئه.
قصص كثيرة تحكى عنه في مناظرته في علوم شتى، في التفسير والتاريخ والرياضيات والطب وأحوال الدول الغربية والشرقية والسياسة والأديان، سريع البديهة قوي الحجة يبذر أفكاره في مشيه وجلوسه وسفره وترحاله وعند الحلاق وفي السوق وحيثما صادف صغيرا أو كبيرا من الناس، وفي كل مرة يستخدم أسلوبا مختلفا في إيصال رسالته، قرأ الكثير من الكتب والمجلات وما كانت تصدره مدرسة التنوير في مصر عبر احتكاكه بمجموعة الضباط الأتراك الذين كانوا يتكلمون عن الدولة العثمانية في مراحل ضعفها، وكان دكان الحلاق هو المكان الذي تدور فيه تلك النقاشات، وربما خاضوا في قضايا الدين والإلحاد فأفحمهم بإجاباته التي كانوا يستغربونها.
أطلقت حوله وحول زملائه الإشاعات, ثم اعتقلهم الإمام في مدينة صنعاء, تحت مبررات دينية؛ منها: اختصار القرآن الكريم, وسب آل البيت, والعمالة مع الإنجليز والنصارى, وغير ذلك من التهم, حاول جماعة من حاشية الإمام أن يسعوا لدى الإمام في إطلاق سراحهم حتى اقتنع الإمام بإطلاق سراحهم, لكنه أقسم يمينًا أن المحلوي لن يخرج من سجنه إلا إذا وافق على الخروج من مدينة صنعاء؛ فرفض المحلوي هذا الشرط, وظل مسجونًا, وتدهورت صحته؛ فتراجع الإمام عن قسمه, وخرج المحلوي من سجنه مريضًا معلولاً, ولم يلبث إلا عدة أيام فمات. كان أول ضحية من ضحايا الحرية، مات في عام ١٩٣٦م بعد أن كان يردد الكلمة الخالدة في الشعب المغفل المسكين “أريد له الحياة ويريد قتلي”.
يقول العزي السنيدار: مات محمد المحلوي الذي كان له الفضل في إخراجي من عالم الجمود إلى عالم الحرية، المجاهد الصابر الذي لقي الأمرين في سبيل إيقاظ هذا الشعب النائم.

*من صفحة الكاتب على (فيس بوك).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى