فكر وثقافة

انتصار السري في»صلوات قصيرة جدا»: تجاوز التجريب إلى خصائص النوع

ربما تكون حيلة فنيّة من الكاتبة لتربك القارئ وتجعله يدخل إلى المجموعة كمن يدخل مغارة سحرية.
تدخل الكاتبة اليمنية انتصار السري إلى القصة القصيرة جدا بوعي نظري يستوعب طبيعة هذا الجنس الأدبي وأركانه وخصوصياته، خلافا للكثير الذين يتعاملون معه باستسهال وتخفُّف من القيود. ولأنها تدرك أن الكتابة في القصة القصيرة جدا مغامرة، فهي تقتبس مقولة وتضعها في البداية قبل النصوص وقبل المقدمة تقول: «ستقوم القيامة يوم يكتشف الإله سر القصة القصيرة جدا» وهذا إعلان صريح بأن فن القصة القصيرة جدا مازال فنا يكتنفه الكثير من الغموض، وسيبقى غامضا، وهي تنسب هذه العبارة لـ«ليو سبرينو غارسيا» وهو شخصية (ربما وهمية) لا وجود لها (حسب علمنا) ضمن كتّاب القصة، ولا ضمن نقادها أو المنظرين لها، وربما تكون حيلة فنيّة من الكاتبة لتربك القارئ وتجعله يدخل إلى المجموعة كمن يدخل مغارة سحرية.

تعدّ «المفارقة» واحدة من أهم سمات القصة القصيرة جدا
تجد نفسك في هذه المجموعة أمام مفارقة منذ البداية، بين العنوان «صلاة في حضن الماء» والعبارة المذكورة قبل قليل، بين الصلاة وسر هذا الفن الذي لا يعرفه حتى الإله، وكأن المجموعة عبارة عن ابتهالات، في محاولة لتجاوز السر أو للمحافظة عليه والبقاء في فلكه. تتسلّح الكاتبة بسلاح المراوغة الفنيّة لتجعل القارئ هو الحكم الفصل، فهي تتجنّب إطلاق النوع على مجموعتها، وتهرب إلى السياق الديني، فتجعل السرد (صلاة) والمجموعة «صلوات قصيرة جدا» مما جعل الناشر يضيف صفة (قصص) من عنده في بطاقة الفهرسة فيصنفها كـ»صلوات قصص قصيرة جدا» واذا كانت القصة القصيرة جدا قد اختلطت بأشكال أدبية أخرى مثل (الخاطرة، الومضة، الشذرة) بل عدّها بعض الدارسين متطورة عنها، وبعضهم جعل هذه الأشكال من ضمن تسميات القصة القصيرة جدا، فإن الكاتبة انتصار السري تميّز بينها، وتتعامل مع هذا الجنس الأدبي الجديد وفق ما حدّده كبار منظريه، لهذا فهي لا تضع ضمن مؤلفها إلا ما استقامت له الشروط، وهي شروط كثيرة أبرزها (القصر الشديد، التكثيف، المفارقة) أضف إليها (الحكائية) وهو الشرط الذي جعلها تنشر في نهاية المجموعة بعض النصوص خارج مسمى القصة القصيرة جدا فتسميها (صلوات خاطفة) وهي نصوص أقرب إلى الومضة والخاطرة، لكنّ نشرها لهذه النصوص ضمن هذه المجموعة المخصصة للقصة القصيرة جدا، اعتراف ضمني بأن الخاطرة والومضة لا تنفصل عن هذا الفن وستبقى مرافقه له ومختلطة به، ذلك لأن شرط ( الحكائية) شرط مطاطي، ففي أي قول حكاية بشكل ما، والقصة القصيرة جدا أول ما قامت عليه هو تمردها على شروط القصة من (حدث وزمان ومكان) وهروبها إلى الشعرية والتكثيف والحذف والإضمار. ومن هنا فإن إشكالية التجنيس حاضرة رغم الفصل بينها في المجموعة، وتسكينها في آخر الكتاب.
إن الوعي النظري الذي انطلقت منه الكاتبة مسنودا بموهبة حقيقية قدّم لنا عملا قيما، يحتاج إلى وقفة نقدية مطوّلة، وأجدني في هذا المقام مقيدا بالمساحة، فأكتفي بمثال واحد، هو قصة «ديكتاتور» : «ارتدى بدلته العسكرية، تقلّد أوسمته الذهبية، تأبّط عكّازه. خرج إلى الشارع يهش الذباب». أصبح عنصر «المفارقة» من تقليديات هذا الفن، فأنت تقرأ النص وتتوقع أن النهاية لن تكون كما تتوقعها، وتفترض في المقابل نهايات بعيدة، فتتصور للديكتاتور نهاية غير عادية، وفعلا تجده يهش الذباب، وهي صورة تدخل في تناص مع قصة البطل الأسطوري الذي يقتل ألفا ويأسر ألفا ويطلق ألفا، ولم تكن تلك الأعداد إلا عدد الذباب، هكذا يقدّم النص صورة الديكتاتور الذي يرى نفسه بطلا ويعلّق على صدره الأوسمة والنياشين، لكن هذه الشخصية التي يرسمها النص ليست بطلا وهميا من خيال الأساطير، بل هي حاكم فعلي (معاصر) مادامت قد وصفته القصة بالديكتاتور، فالبطل الشعبي مجرد مهرّج لا يحكم ولا يستبد، بل يقوم بإضحاك الآخرين وإسعادهم، وهو لا يدّعي البطولة إلا على نفسه، فحقيقته مكشوفه، وهذا الحاكم أيضا يبدو أنه قد انكشف وقد أصبح معطّلا من كل فعل باستثناء الخروج إلى الشارع في استعراض مثير للشفقة، بعد أن فقد سلطته وهيبته، صورة الحاكم العسكري (الديكتاتور) وقد أصبح مجنونا يعيد تمثيل شخصيته بعد أن تعطّلت من كل فعل ومن كل تأثير. هكذا يرسم النص مفارقاته الجميلة في أسطر قليلة، فينتقد الواقع ويستعين بالتراث، ويستفيد من السينما في رسم مشهد صامت قصير لكنه يقول الكثير.
نقلا عن القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى