قال الراحل الثاني عن صديقه الراحل الأوّل؛ مدركاً طبائع العروة الوثقى التي كانت ستجمع بين قطبَيْ الملف. يسجّل هذا العام الذكرى العاشرة لرحيل اثنين من كبار الأدب العربي المعاصر: الناقد المصري رجاء النقّاش (1934 ــ 2008)، الذي رحل في 8 شباط/ فبراير؛ والشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941 ــ 2008)، الذي رحل في 9 آب/ أغسطس. وليس الإسهام الفريد في إغناء الإرث النقدي والشعري هو، وحده، الذي يجمع بين الراحلين؛ إذْ كان الأوّل في طليعة النقاد العرب الذين قرأوا شعر الثاني في مراحل مبكرة، على أسس إبداعية وجمالية معمقة؛ ومن زوايا مختلفة، كذلك، من حيث تجاوز المقاربات الشائعة يومذاك، بصدد شعر الأرض المحتلة. ومن الإنصاف، في يقيني، أن يُستذكر غياب النقاش في هذه السنة تحديداً، مقترناً باستذكار غياب درويش.
وفي صيف 1969 صدر عن دار الهلال، في القاهرة، كتاب النقّاش «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، فشكّل حدثاً ثقافياً ونقدياً فارقاً، بالطبع؛ لأنّ الفصول تناولت سلسلة خصائص في شعر درويش، لا تبدأ من الغموض والتصوف والحبّ والمرأة والطبيعة، ولا تنتهي عند الثورة والمقاومة و«الشعر الجديد» والتأثيرات المختلفة. لكنّ الحدث امتدّ إلى السياسة أيضاً، إذْ لم يكن مألوفاً أن يبادر ناقد، في مصر أواخر الستينيات وما بعد هزيمة 1967، إلى تكريس كتاب عن شاعر فلسطيني كان يحمل الجنسية الإسرائيلية في نهاية المطاف، فكيف بامتداحه كشاعر مقاومة! حساسية إضافية تمثلت في الفصول التي خصصها النقّاش لقضايا الوجود العربي في دولة الاحتلال الإسرائيلي، والدين والثورة، والانتماء إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، و(في الطبعة الثانية من الكتاب، 1971) أسباب خروج درويش من فلسطين.
وكان النقّاش قد قرأ شعر درويش للمرة الأولى سنة 1966، في صحيفة جزائرية، على متن طائرة متوجهة إلى المنطقة البترولية في الجزائر؛ ولم يكن غريباً أنّ ينشدّ سريعاً إلى ما يقرأ: «لا تقلْ لي:/ ليتني بائع خبز في الجزائر/ لأغنّي مع ثائر!/ لا تقلْ لي:/ ليتني راعي مواشٍ في اليمن/ لأغنّي لانتصارات الزمن/ لا تقلْ لي:/ ليتني عامل مقهى في هافانا/ لأغنّي لانتصارات الحزانى…». كانت تلك القصيدة، بعنوان «الأمنيات» من مجموعة أوراق الزيتون»، تعكس مجموعة من الخصائص الفنية التي سوف تجتذب النقّاش، فيستفيض في مناقشتها لاحقاً على امتداد فصول كتابه: الرمز، الإنشاد، التداعي الحرّ، الحوار، اللغة عالية الإيحاء، المجاز الحسي والذهني، تجسيد عناصر الطبيعة…
من جانب آخر، لا تغيب شخصية النقّاش الفكرية والسياسية حين يعلّق على منظورات الدين والثورة عند شعراء الأرض المحتلة، فيبدو أميناً لتكوينه وانتمائه إلى عقدَيْ الستينيات والسبعينيات، حين توجّب على بعض النقاد ذوي الميول القومية أن يواكبوا برامج أحزاب وقوى البورجوازية الصغيرة العربية، ، الناصرية أو البعثية، وأن يشحنوا الأدب بجرعات عالية، وأحياناً مفرطة مغالية، من المصالحة الثقافية. وهو، في فصل بعنوان «الدين والثورة»، يكتب: «ظهرت الفكرة الدينية في البداية عند شعراء المقاومة على شكل ثورة من ثورات الشك والتمرد، وبلغت ثورة الشك هذه حداً يكاد يعتبره المؤمنون إلحاداً وكفراً كاملين، ولعل ثورة الشك هذه قد تأثــرت بما يمكن أن نسميه «طفولة الأفكار اليسارية» التي شاعت في بعض الفترات بين شعراء الأرض المحتلة (…) على أنّ هؤلاء الشعراء أنفسهم قد استطاعوا بعد ذلك أن يصلوا إلى فكرة أنضج وأعمق، وتجاوزوا ثورة الشك، وربطوا بين الدين والثورة، بين الدين وتغيير الحياة، بين الدين والكفاح من أجل المستقبل الإنساني».
لكنّ كتاب النقاش اندرج، ويندرج اليوم أيضاً، في نشاط نقدي اتصف على الدوام بعمق التناول وجسارة الطرح في آن معاً، ضمن حركة طازجة حارّة لم تتوقف عن الانخراط في جبهتين:
1 ــ إدارة الصراع (في جبهة الأدب) بين اليمين واليسار عموماً، وبين المدافعين عن عروبة مصر ودعاة انتمائها إلى أصول أخرى شعوبية. وفي هذا الصدد تدخل سجالاته ضدّ توفيق الحكيم ولويس عوض ومَن سماهم بـ«الإنعزاليين»؛ ودفاعه عن التنوير، لدى طه حسين وأنور المعداوي بصفة خاصة؛ وتمييزه بين اتجاهات اليمين واليسار عند عباس محمود العقاد (وكان ذلك بمثابة اختراق ذاتيّ نحو الديالكتيك الماركسي، مارسه النقّاش بنفسه، على نفسه!)؛ وتشخيصه للظواهر السياسية وراء أزمة الثقافة المصرية.
2 ــ تقديم المواهب الأدبية الجديدة، والسباحة عكس التيّار في الدفاع عن حقها في احتلال الموقع المناسب. وإلى جانب درويش، كان النقّاش بين أوائل الذين قدّموا الروائي السوداني الطيّب صالح، فرحّب بروايته «موسم الهجرة إلي الشمال»، واعتبر أنّ صدورها دليل على أنّ الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ لم يعد عقبة في وجه تطوّر الأسماء الشابة. كذلك قدّم النقّاش لمجموعة أحمد عبد المعطي حجازي الأساسية «مدينة بلا قلب»، 1958، وكانت تلك المقدّمة بمثابة بيان سياسي، قوميّ ناصري وتقدّمي، في تحصين قصيدة التفعيلة المصرية ضدّ دعاة تأثيمها واعتبارها نتاجاً استعمارياً.
وأذكر أنّ درويش، حين بلغه نبأ رحيل النقّاش، أسف لأنّ فصلية «الكرمل» كانت يومها متوقفة عن الصدور: «كنّا سنخصص له ملفاً بالغ الثراء، ومحرّضاً على السجال»، قال الراحل الثاني عن صديقه الراحل الأوّل؛ مدركاً طبائع العروة الوثقى التي كانت ستجمع بين قطبَيْ الملف.
نقلا عن القدس العربي