فكر وثقافة

الكتابة المتشظية عن الحرب

شيرين أبو النجا

ليس من السهل الكتابة عن كتابة الحرب، ولكن بما أن الحروب انتشرت في منطقتنا فالأمر لم يعد ترفا أو اختيارا. ولنا في الحرب الأهلية اللبنانية مثال، تلك الحرب التي اندلعت في 1975 واستمرت حتى 1990. وقد أنتجت تلك الحرب موروثا روائيا ضخما، إذ كانت تشبه السردية الكبرى التي لا يسهل على الإنسان الخروج منها أو نفضها عن الذاكرة أو طردها من الوعي.

ليس من السهل الكتابة عن كتابة الحرب، ولكن بما أن الحروب انتشرت في منطقتنا فالأمر لم يعد ترفا أو اختيارا. ولنا في الحرب الأهلية اللبنانية مثال، تلك الحرب التي اندلعت في 1975 واستمرت حتى 1990. وقد أنتجت تلك الحرب موروثا روائيا ضخما، إذ كانت تشبه السردية الكبرى التي لا يسهل على الإنسان الخروج منها أو نفضها عن الذاكرة أو طردها من الوعي.

وإذ نسمع أن النساء تأثرن أكثر من غيرهن بالحرب اللبنانية (بأي حرب) ليس بالأمر الجديد، فكل حرب تدفع النساء إلى محاولة البحث عن الإنساني وسط وضع غير إنساني بالمرة. وهي صدمة تشعل عدة أنماط من المقاومة، مثل ما قدمته مثلا سهى بشارة المناضلة اللبنانية باعتباره تعبيرا عن موقفها في كتابها “مقاومة” (2000). تبدو فكرة الكتابة كنوع من المقاومة فكرة فلسفيةولكنها كانت في الواقع جزءا من التجربة المعاشة، فالروايات التي كتبتها نساء أثناء الحرب اللبنانية وفي أعقابها تعد بصفة عامة نوعا من المقاومة ووسيلة لتجاوز المحنة وترسيخا للذاكرة. تناولت حنان الشيخ ما يُمكن أن تفعله الحرب بالنساء في “حكاية زهرة” (1998) وبالمثل استفاضت في الأمر علوية صبح في “مريم الحكايا” (2002) حتى أنها تحولت إلى أحد شخصيات السرد، أما في “حارث المياه” لهدى بركات (1998) فيطالعنا تصور روائي لما يفعله تقسيم المدينة، إذ يتحول تأمل أنواع النسيج كوسيلة للتشبث بالحياة. قد يكون التصور الروائي التخييلي للحرب أسهل من تسجيل التجربة، إذ تقوم الرواية ببناء عالمها الخاص الذي تتشكل فيه الشخصيات بما يمنح الكاتبة قدرة على تأمل المشهد من مسافة كافية..
تنشأ الصعوبة عندما تحاول الكاتبة أن تسجل أحداث الحرب في تتابع زمني خطي يتمحور حول الذات التي مرت بتجربة الحرب. وهو ما تفعله جين سعيد مقديسي في كتاب “شذرات من بيروت: ذكريات الحرب” (1990). كيف يمكن كتابة ذكريات الحرب اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عاما؟ بالإضافة إلى كل فظائع تلك الحرب كانت الخسارة الأعظم هي انقسام بيروت إلى قسمين، وقد يكون تعقد أحداث الحرب هو الذي أوحى لجين مقديسي بإضافة تتابع زمني تاريخي في بداية مذكراتها. 
وفي شهادتها التي نشرتها مجلة “باحثات” (1995) تحت عنوان “التعبير عن الذات: لماذا كتبت” تعلق جين على كتابها “شذرات من بيروت” قائلة إنها كتبت من أجل إيجاد أجوبة على أسئلة مُلحة: “ما مكاني في العالم؟ هل أنا متفرجة سلبية، مجرد متابعة للأشياء، شخص لا يفهم شيئا مما يجرى حوله؟ أم هل أنا مشاركة فعالة في الأحداث؟” لكي نفهم ما إذا كانت جين مقديسي قد نجحت في التوصل إلى أي إجابة لا بد أن نتأمل عملية الكتابة التي ساعدتها على مواجهة واقع مجنون وتقبل حقيقة انهيار بيروت. وتقول إن الإجابة على تلك الأسئلة الوجودية “لم تبدأ في التشكل إلا حين بدأت في الكتابة وداومت عليها. وحتى اليوم لست متأكدة من أن الإجابة حاضرة، ولكنها تتشكل، وربما تكون هذه الإجابة: أي الكتابة عن العالم كانت طريقتي في فهمه. الكتابة عن العالم جعلتني أمتلكه. لقد منحتني الكتابة عن العالم موقعي فيه”.
“شذرات من بيروت” ليس سيرة ذاتية بل هو مذكرات عن الحرب. إنه قصة الذات النسوية الممزقة في علاقتها بالعالم. ويفترض هذا الموقف أن الذات هنا ليست كاملة مترابطة، ولذلك تصبح الكتابة وسيطا يسد الفراغ بين “الذات” و”العالم”. أي أن هذه المذكرات تحاول أن تعالج فجوات التاريخ واضطراب الزمان وتغير شكل المكان. ولا نلمس في الكتاب أي محاولة لإخفاء الذات الممزقة المختبئة خلف قناع هش. فهي تطرح هذه المخاوف بوضوح: “كيف يمكنني أن أكتب عن بيروت؟ وكيف يمكن أن أجمع ذلك في كتاب واحد: سنوات الألم، سنوات أراقب فيها عالما ينهار بينما نحاول منع هذا الانهيار، طبقات الذكريات والأمل، سنوات المأساة وأحيانا حتى الملهاة، العنف والعطف، الشجاعة والخوف؟”.
يتسم السرد في “شذرات” بالتشرذم وهو شكل يعكس الواقع الذي تحاول الكاتبة فهمه. لم يكن أمامها مخرج من هذا التشرذم سوى أن تحاول الإمساك بجوهر المكان مما يحول الكتاب إلى كتابة طبوغرافية بدلا من أن تكون سيرة للفرد. فسيرة الذات في المذكرات النسائية لا تلتزم بالخطية ولا تدعي الاتساق مطلقا لأن الإمساك بالتسلسل التتابعي الزمني لحركة الوعي مستحيلا. وفي شهادتها “التعبير عن الذات: لماذا كتبت” تتذكر جين مقديسي الأسباب التي دفعتها إلى الكتابة. فتسترجع واقعة بعينها حدثت في صيف 1975 بعد بدء القتال:
“في إحدى الليالي كان لدينا ضيوف على العشاء، …وانضممت إلى زوجي الذى كان منغمسا في حوار في الشرفة مع أحد ضيوفنا وهو أستاذ علوم سياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت. جلست أستمع لبضع دقائق، ثم طرحت سؤالا، وأذكر أني قلت “لا أفهم، من يحارب من ولماذا؟” وكان لسؤالي وقع المفاجأة. نظر ضيفنا إلى زوجي مندهشا وقال باحتقار: “سمير، ما الذي حدث لزوجتك؟ أين تعيش؟ لو كان صفعني على وجهي ما اندهشت أكثر أو شعرت بإهانة أعمق وغضب أشد لرد فعله”.
كانت “شذرات من بيروت” رد فعل جين مقديسي على الشعور العميق بالإذلال الذى شعرت به. كانت الكتابة عملا سياسيا لتجعل من نفسها ذاتا مدركة وليس مجرد موضوع أو شيء—كما عاملها ضيفها. أي أن الكتابة كانت مخطط جين في الإعلان عن ذاتيتها، وكأنها ضرورة استراتيجية نشأت في سياق بعينه. بذلك تتحول الكتابة بالفعل إلى أحد أشكال المقاومة التي تقوم بها ذات لا ترى حولها سوى الانهيار والتشظي، فتجيء الكتابة كمحاولة لفهم عالم لم تعد تعرفه أو تفهمه، بل إن الذات تحاول الإجابة عن التساؤل الرئيسي: أين مكاني؟ 
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى