«اليمن في الذاكرة الفرنسيّة»
جوزف هاليفي، مستشرق – فرنسي، كُلّف من وزير التعليم العام بمهمة أثرية إلى اليمن بتاريخ 6 كانون الأول (ديسمبر) 1869 يمن مونيتور/الحياة
يعرض حميد عمر، وهو ديبلوماسي وأستاذ جامعي يمني، في كتابه «اليمن في الذاكرة الفرنسية»، الصادر حديثاً عن «مكتبة الآداب» في القاهرة، لمحطات من تاريخ اليمن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين، معتمداً على الأرشيفات الفرنسية. يتحدث الكتاب في الفصلين الأول والثاني منه عن الحملتين الفرنســـيتين الأولى والثانية إلى اليمن، ما بين عامي 1708 و1713.
ويلاحظ أن المؤلف تردد كثيراً في إطلاق لفظ «حملة» عليهما، لما لهذا الكلمة من قوة في الدلالة العسكرية والحربية كما عُرف تاريخياً.
مع أن السفن الفرنسية التي وصلت إلى شواطئ اليمن، يقول المؤلف، لم تكن سفناً تجارية مسالمة، بل كانت سفناً حربية مجهّزة بمدافع، وخاضت حروب قرصــنة خاطفة عدة وهي في طريقها إلى ميناء المخا، بل فرض الفرنسيون شروطهم، وقاموا بمناوشات عدة استعراضاً للقوة.
وأفضت هاتان الحملتان إلى العدوان الذي تعرّض له ميناء المخا في العام 1737 من سفن حربية تابعة لشركة الهند الشرقية الفرنسية، وبموافقة ملك فرنسا لويس الخامس عشر.
جوزف هاليفي، مستشرق – فرنسي، كُلّف من وزير التعليم العام بمهمة أثرية إلى اليمن بتاريخ 6 كانون الأول (ديسمبر) 1869، بهدف استكشاف ونسخ النقوش السبئية أو الحميرية، للمساهمة في إثراء الأبحاث المقدّمة ضمن مشروع أكاديمية النقوش والآداب في باريس. ونشر هاليفي تقريراً مفصلاً يزيد عن 300 صفحة، عن مهمته هذه قدّمه إلى وزير التعليم العام بتاريخ 21 تموز (يوليو) 1871، وفيه كثير من المعلومات الدقيقة والمهمة وشيء من المبالغة.
وذكر في معرض تقريره، أنه فخور بالاكتشاف الذي حقّقه في منطقة شديدة الخطورة، لم تطأها قدم أوروبي قبله، وكاد يدفع حياته ثمناً لذلك، خصوصاً أن النتائج المُرضية التي توصّل إليها مفيدة للغاية سواء من وجهة نظر أثرية بحتة، أو من باب الفائدة العملية التي تتيح معرفة أكثر عمقاً لمنطقة شبه الجزيرة العربية. وأضاف أنه لن يتطرق في تقريره إلا إلى المسائل التي لها علاقة بعلم الآثار، كونه الهدف الرئيس للمهمة التي أنجزها، وأنه سيتناول بإيجاز الفائدة من جمع ونسخ هذه المخطوطات والنقوش التي تلقي الضوء، ليس على الحضارة السبئية فحسب، بل على حضارة الشعوب السامية بعامة، إذ قال: «لا نمتلك سوى معلومات ضئيلة عن الشعوب السامية الأخرى، خصوصاً عن السبئيين والحميريين، الذين لم يروِ عنهم المؤرخون الإغريق والرومان سوى بعض الحقائق، ولا نجد عنهم عند المؤرخين العرب الذين من المفترض أن تكون في حوزتهم معلومات شاملة عن إخوتهم وجيرانهم، سوى قوائم مزعومة لأسماء ملوك حمير، وكم من الأساطير الخرافية».
وصل هاليفي إلى مدينة عدن، لينطلق منها إلى صنعاء ومن ثم إلى مأرب. توجه بعد ذلك إلى مدينة لحج، والتي تبعد مسيرة ست ساعات من عدن، وكان مطمئناً إلى أن سلطان لحج كان تابعاً للإنكليز، ويسعى دوماً الى إرضاء الأوروبيين، إلا أن نفوذه لم يكن واسعاً، وكانت منطقته في حال استنفار دائم بسبب قبائل الحواشب التي اعتادت على سلب القوافل المتّجهة إلى عدن ونهبها، وعلى فرض الإتاوات على قرى تحت سيطرة سلطان لحج. كانت رحلة عالم الآثار الفرنسي جوزف هاليفي إلى المناطق الشرقية من اليمن مثمرة جداً، من النواحي كافة، إذ أكسبته على الصعيد الشخصي شهرة عالمية لا منازع لها، أما على الصعيد العلمي، فقد نجح في تقديم دراسة ذات منهجية علمية متميزة، حيث ارتكزت على: – نسخ 685 نقشاً سبئياً ومعينياً من 37 موقعاً أثرياً موزعة في مناطق مختلفة.
وهو أعطى معلومات تفصيلية حول النقوش شملت: المنطقة والمكان اللذين وُجد فيهما النقش، طبيعة البناء الذي وُجد عليه النقش، هل وُجد النقش على نُصُب أم على حجر، إذا كان الحجر في وضعه الصحيح أم كان مقلوباً وكان النقش مقلوباً أيضاً، اتجاه الكتابة إذا كان من اليمين إلى اليسار أم العكس، عدد الأسطر المقروءة، والأسطر غير الواضحة أو المفقودة، تقديم ترجمة أولية لكثير من النقوش السبئية والمعينية التي جمعها إلى اللغة الفرنسية، وضع قائمة للحروف السبئية وما يقابلها في اللغات العبرية والعربية والفرنسية، تقديم دراسة تحليلية نقدية لتوصيف هيرودوت للدين عند العرب القدماء. وقدم كذلك توصيفاً منفصلاً للنقوش المعينية التي بلغت 305 نقوش جمعها من أطلال ثلاث مدن معينية. كما حرص على رسم خرائط جغرافية لمسار رحلته، ولوادي سبأ، والجوف الأسفل، ووادي الدجر، ونجران، وبلاد الدواسر وغيرها.
رحلة ألبير ديفلرز (1841 – 1921) وهو عالم نباتات فرنسي، دفعه طموحه الى إكمال المسيرة العلمية التي بدأها فورسكال Forskahl، وايهرينبرغ Ehrenberg، وبوفيه Bove، وبوتا Botta، الذين مثلت أبحاثهم وما تضمنته من معلومات مناخية وجغرافية، وما جمعوه من العينات النباتية من بعض مناطق اليمن، قيمة علمية نادرة.
وأشار إلى أن رحلته العلمية إلى اليمن لن تكون تكراراً لمن سبقوه، بل تكميلاً لجهودهم، بخاصة أن الغطاء النباتي في المناطق الساحلية وبعض المناطق كـ «بيت الفقيه» و»حيس» و»جبلة» و»العدين» و»تعز»، أصبح معروفاً في أوروبا، بينما يظل الغطاء النباتي في المناطق الجبلية في الداخل اليمني مجهولاً للأوروبيين، وهي التي سيركز أبحاثه فيها، إذ تعذّر على فورسكال الوصول إليها بسبب وفاته، ولم يتمكن بوتا من استكشافها بسبب مرضه. ووضع مساراً لرحلته العلمية بالسفر إلى صنعاء عبر مناخة، ومن بعدها يعود عبر ذمار ويريم وتعز وصولاً إلى عدن. قام برحلته هذه إلى اليمن خلال عام 1887، بتمويل من الحكومة الفرنسية، وانطلق من السويس في مصر، إذ كان مقيماً هناك سنوات عدة، على متن سفينة «الحديدة» المملوكة لشركة «الخديوي» بتاريخ 11 آذار (مارس) 1887، ونزل في جدة وسافر منها إلى مصوع، وجمع بعض العينات من النباتات والأعشاب.
لم يتمكن من النزول في جزيرة كمران، لعدم السماح للسفينة بالرسو، إذ كانت الجزيرة تُستغل في ذلك الحين كمحطة للحجر الصحي للحجاج القادمين من الهند والمتوجهين إلى مكة. وصل إلى الحديدة في 25 آذار، ولعدم وجود ميناء معدٍّ لرسو السفن، كان عليهم الرسو على بعد ميل في المياه العميقة، حيث يُنقل الركاب إلى الشاطئ بواسطة قوارب صغيرة. ركب أحد هذه القوارب بصحبة مرافقه الشخصي حسن المصري ومعهما الأمتعة، ووقف بعيداً من الرصيف بأمتار عدة كي يتمكن من مساومة الحمالين الذين يتسابقون ويتدافعون ويلفون شيلانهم ويرمونها باتجاه القارب، ومن وقع شاله على الأمتعة أصبح له الحق في حملها.
وصادف وصولُه يوم الجمعة، وهو يوم عطلة لموظفي الجمارك، فاضطر لإبقاء أمتعته في مبنى الجمارك، واستأجر غرفة في نُزلٍ تركي.
وصف الحديدة بقوله إنها أصبحت المركز التجاري البحري الوحيد لبلاد اليمن العثمانية، منذ تدهور ميناءي اللحية والمخا، وبعد أن غمرت الرمال ميناء غلافقة. منازل المدينة مبنية بالحجارة وتتكون من طوابق عدة، ومحاطة بجدار منيع ما عدا جهة البحر. في الضواحي الجنوبية والشرقية، تنتشر العشش والعُرُش مثل بقية المناطق التهامية، وتحتوي جميعها على الأثاث نفسه تقريباً، والذي يتكون في الغالب من بضعة كراسٍ وأسِرة (عبارة عن إطار خشبي محمول على أربعة أرجل وتتوسطه حبال مشدودة) ومرافع تُستخدم كطاولات، والشيء الأهم وهو (المداعة).
شوارع المدينة ضيقة ومتعرجة. المساجد والمباني الحكومية ليس لها طابع معماري مميز، وهناك بعض المنازل الجميلة التي يمتلكها بعض التجار الميسورين مثل نزل سيدي هارون، الذي يطل على البحر ويقع بين النزل والدكة، واجهته مزخرفة على النمط الهندي، وفيه فناءٌ أرضيته من الرخام الأسود، وحوض نافورة ومظلة على أعمدة رفيعة من الخشب المنحوت بطريقة أنيقة.
وإضافة إلى أهل البلد من اليمنيين العرب، والحامية التركية والمسؤولين الأتراك، يقطن في الحديدة خليطٌ من النــاس، يونانيون، دناكل أتوا من جيبوتي وعصب والصومال، وهنود بانيان وفرس. وفي الضاحية الشرقية، تسكن فئة المهمشين (الأخدام)، الذين يعيشون في منأى عن الآخرين ولا يحملون السلاح. لا توجد ممثليات ديبلوماسية في اليمن سوى لإيطاليا وبلاد فارس، ولكل منهما مسؤول قنصلي معتمد، والمسؤول القنصلي الإيراني مفوض في حماية الرعاية الإنكليز، والمسؤول القنصلي الإيطالي يحتفظ بسجلات أرشيف الوكالة الفرنسية التي كانت موجودة في الحديدة قبل سنوات قليلة مضت.