اليمني.. من جحيم إلى آخر
ستصبح جملة مملة ومكرّرة، ومستهلكة أيضًا، إذا قلنا إن اليمني عاش أسوأ أيام حياته في السنوات الأخيرة إجلال البيل
ربّما ستكون هذه العبارة إجابة مختصرة لليمني، إذا ما سُئل عن سبب مغادرته بلاده قبل أعوام طويلة، لكنها بالطبع ستتغير في الأعوام الأربعة الأخيرة، فإذا ما استطاع السفر، ستكون العبارة “أن تنجو بما تبقّى من ذكرياتك، وليست ذكرياتك فحسب من تودّ النجاة، بل جسدك وعقلك وكل شيء منك”.
ستصبح جملة مملة ومكرّرة، ومستهلكة أيضًا، إذا قلنا إن اليمني عاش أسوأ أيام حياته في السنوات الأخيرة، لكنّها الحقيقة الصادمة، إذا ما تحدّثنا عنها بمنتهى الواقعية. أنت في بلدك، تلك التي كلّما سمعت أحدا يشرّح أحداثها يفيض حزنك، وتتّسع رقعة أوجاعك، لكنها شبه الحياة بمتغيراتها الجديدة فرضت عليك مغادرة بيتك، وترك المسمّاة “وظيفة”، والذهاب إلى أماكن لم تتخيل يومًا أنك ستعيش فيها. وبالطبع، ليست خارج البلاد، فذلك أصبح من سابع المستحيلات، فقط إلى منطقةٍ لا يُشهر أحدهم سلاحًا في وجهك، إذا ما قلت له انتبه قليلا.
انتشرت أخيرا على وسائل التواصل الإجتماعي عبارات محفّزة عن السفر وتشجيع كثيرين على السفر، ومشاهدة بلاد الله العظيمة في مختلف القارات، إلّا أنها لاقت الإستنكار من بعضهم، والقبول والحماس من آخرين. يعلّل الأول أنه بالكاد يوفّر قوت يومه، فكيف سيفكّر بالسفر، باعتباره ضربا من الخيال. أما الآخر فلن يجد معوقاتٍ لمنعه من السفر.
ينظر اليمني حيال ذلك، وكأنه الأكثر حزنا على هذه الأرض، لا يستطيع السفر إلى خارج البلد، لأسباب كثيرة يطول شرحها وتكرارها. ومن المضحك والمحزن أن يسافر اليمني داخل بلاده بالتهريب، حيث نعرف أن التهريب غالًبًا ما يكون إلى خارج البلاد، إذْ اعتاد بعضهم على فعل ذلك، في وقت كانت البلد مستقرة نوعًا ما، أما الآن وقد انقلبت البلاد رأسًا على عقب، أصبح اليمني يسافر بالتهريب داخل بلده! لذلك سيضطر أن يجلس أربع ساعات على دراجةٍ ناريةٍ في أجواء مختلفة، لسفر قد يستغرق أيامًا، لكي يصل إلى مدينة آمنة نوعًا ما، وبالطبع داخل بلده.
ليس ترفًا أن يسافر المواطن البسيط الذي ما زال راتبه مقطوعًا، عامين متتاليين، حيث تحاربت أطراف كثيرة فوق رأسه، إذ سيسافر لحاجة مُلحّة وضرورية، لعلاج أو خوفًا على حياته، إن كانت تُسمّى حياة. لكن من سوء حظه أنّ أحدا لن يلتفت إليه، أو يهتم لمعاناته، أو يكتب عن تجاربه وحكايات آلامه الطويلة. لا أحد يعرف معنى أن توقفك نقاط عديدة، من جهات مختلفة، ساعات وأياما، ولا تعرف سبب ذلك، لا أحد يعرف معنى أن يضرب بجوازك اليمني عرض الحائط، أن تقف ساعاتٍ طويلة في مطارات كثيرة، أن تُحجز في مكان معزول، خشية أن تأتي حاملا أمراض بلادك. معنى أن تسافر هربًا، وأنت تعاني الأمرّين في الداخل والخارج، وإن وُجِد من سيكتب عن ذلك، فسيكون مدفوع الثمن، إذ هناك من يجد الأمر مربحا، أن يتاجر بحزنك وبؤسك أمام المحافل الدولية، في حين أنهم لن يفعلوا شيئًا سوى الكلام الذي لا طائل منه.
وفي مفارقةٍ هزليةٍ في أثناء الحروب والثورات، بين من يصل به الحال إلى الفقر المدقع ومن يزداد ثراءً ومالًا. هناك دائمًا فئة من الناس، تظل الرابحة دومًا بحرب أو بسلم، لا شيء يتغيّر عليها، بل ربما ترتفع أرصدتها ويعلو شأنها، وهذا ما حدث في اليمن، وشاهدناه جميعًا. غالبًا هذه الفئة هي التي ستسافر ولن تشكو همًّا أو تضجُّ تعبًا طالما أنّ في حوزتها الكثير، ستجد مكانا أكثر أمنًا وحياة أكثر رفاهية، وهي تقرأ عناوين الأخبار في إحدى الصحف العالمية، غير آبهة بما يحدث، ثم تذهب إلى استكمال حياتها على نحو آخر، أما اليمني الآخر الذي لا يعلم العالم عنه شيئا، سوى أنه سينتقل من جحيم إلى آخر!
*نقلا عن العربي الجديد