الأساس الموسيقي للقصيدة: لماذا كان الشعر العربي غنائيّا؟
بين الشّعر والموسيقى علاقة قرابة منذ القديم. يمن مونيتور/ القدس العربي
بين الشّعر والموسيقى علاقة قرابة منذ القديم. لا تمّحي. فقد ارتبط الشعر عند العرب، في بحر العصور الغابرة، بالغناء، حتّى غدا «الغناء ميزان الشعر»؛ فكان كلاهما مثل توأمين تَصاحبا في الوجود منذ أن بدأ الغناء نوعا من الأشعار القصيرة، وارتقى إلى شكل القصيدة. ولا يرقى إلينا شكٌّ في أنّ الشعراء، منذ ما قبل الإسلام، كانوا يُغنّون أشعارهم، ويعبّرون عن نظمه وإلقائه بالإنشاد، ولعلّ أشهرهم المهلهل، وعلقمة الفحل، والأعشى صنّاجة العرب.
وكان من الشعراء من يُنْشد الشعر قاعدا، ومنهم من ينشده واقفا، كما أنّ من طقوس إنشاد الشعر والتغنّي به اللِّباسَ والعناية به. عدا عن أنّ أحدهم قد يرفع من قدر الشعر، أو يحطُّ منه تبعا لحسن الإنشاد أو سوئه. ولم يكن ذلك يحدثُ خارج مقامات القَوْل التي يَلْهج بها الشاعر، فكان إن نسب ذلّ وخضع، وإن مدح أطرى وأسمع، وإن هجا أخلّ وأوجع، وإنْ فخر خبّ ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حنّ ورجع. وقد وجدنا كثيرا منهم يذكر في شعره الغناء والقيان وآلات الموسيقى المتنوّعة من صنجٍ ومزهرٍ ودفٍّ وعودٍ، وسواها؛ وهو ما يدلّ على ارتباط شعرهم بوظيفة الغناء، وظلّ ذلك مستمرّا حتى عهود متأخرة. ومثلما كانت لهذه الأغاني قوّة سحرية تعين الإنسان في عمله وتنجز له هذا العمل، بقدر ما شفّت عمّا بداخل الشاعر، فكان غناؤه نُواحا يخرج جوهرية النفس الشرقية المقهورة تاريخيّا وطبيعيّا، جنسيّا ومادّيا، إخراجا إيقاعيّا ندعوه الشعر.
ثلاثة وجوه للغناء
تنقل لنا كتب الأدب والتاريخ أنّ غناء العرب كان يجري في القديم على ثلاثة وجوه: النصب والسناد والهزج. وقد روي عن ثعلب أن العرب كانت تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يُوضع على بعض أوزان الشعر، كأنّه على وزن (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، حتى أصبح هذا الشكل مستقلّا عن غيره، وهم يعرفونه من اللحن والنغم ويُميّزونه عن غيره من التغني به؛ فإذا أرادوا تمييز بيتين عن بعضهما تغنّوْا بكليهما، فإن توافقا فهما من وزن واحد، وإلا فهما مختلفان من دون أن يعرفوا الأوزان ويسمّونها، فالغناء عندهم مضمار معرفة الشعر، كما قال حسان بن ثابت:
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائلهُ
إنّ الغناء لهذا الشعر مضمارُ
وهكذا، بسبب من أصوله الغنائيّة، انغلق الشعر العربي على قيم وموازنات صوتيّة وموسيقيّة ساعدت على تلحينه والترنُّم به وإخراجه منظَّما ومقطَّعا تقطيعا صوتيّا دقيقا، بما في ذلك التقفية والسجع والترصيع والتكرار، وهو ما بعث الموسيقى في جذر الكلمة الشعرية، وفي علاقتها الجرسية بغيرها من الألفاظ التي كانت تقتحم الأسماع، وتملأ فم منشديها، فتُميل إليها القلوب. ويعدّ الحداء، في نظر كثيرين، أقدم أشكال الغناء في عصر ما قبل الإسلام، أو هو «أوّل السماع والترجيع في العرب»، بتعبير المسعودي. وهو غناءٌ شعبيٌّ شاع بين العرب يؤدّونه للتخفيف عن أنفسهم، ويحدون به إبلهم في مسيرهم ورحيلهم، كما استخدموه في السعي من الآبار وفي الحماسة والحروب.
لقد كان العرب في الجاهليّة يُرجِّعون الشعر بأن يقرؤونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثِّر في جمهور السامعين، ويقع منهم موقعا حسنا. ولم يكن لهم سوى ذلك، مستلهمين بسليقتهم وتوقُّد ذهنهم روح الطبيعة وأسرارها. وفي ذلك ما يُجلّي، كما قال ابن سينا، «حبّ الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا. ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها. فمن هاتين العلّتين تَولَّدت الشعرية، وجعلت تنمو يسيرا تابعة للطباع. وأكثر تولدها على المطبوعين الذين يرتجلون الشعر طبعا، وانبعثت الشعرية منهم بحسب غريزة كل واحد منهم وقريحته في خاصته، وبحسب خلقه وعادته». فلمّا جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكان «أروى الناس شعرا»، بدا له أنّ الحاجة مسّت إلى استخراج أوزان الشعر العربي وسكبها في قواعد موسيقية.
كانت أوزان الشعر المغنّى في بداية نشأتها، شأن الحداء، أوزانا قصيرة وبسيطة تقوم على تكرار تفعيلةٍ واحدة أو أجزاء منها، قبل أن تضطربُ بين القدر الأوسط والطويل داخل ما يتفرّع عنها ويتحدّر منها جزءا وتشطيرا وتأليفا. وما دامت هذه الأوزان التي نتجت عن تطوّر الغناء وقوالبه الموسيقية، قديمة، فـلا مراء في أنّهما قد اتّصل اقترانهما زمانا لا نعلم مداه، ثمّ انتهيا إلى الانفصال، فسار كلُّ فـنٍّ سيرته.
العلم الموزون وفضيلة الإيقاع السليم
الشعر كما الموسيقى هو فنٌّ سَمْعيٌّ، فكلاهما يعتمد على الأداء الصوتي وإن اختلفت لغته على الأداء، بيد أن جوهرهما واحدٌ؛ ولذلك كانا يتّحدان أو يُكمّل بعضهما بعضا، فالشاعر ينظم والموسيقار يُلحّن. ذلك ما تفطّن إليه علماؤنا القدماء عندما ذهبوا إلى أنّ أصل اللُّغات كُلِّها إنّما من الأصوات والمسموعات، مثلما لاحظوا أنّ جَرْس الحروف في اللُّغة يُضاهي أصوات الأفعال التي تُعبّر عنها. وتبعا لهذا، لم يفت علماء العروض والأصوات وفلاسفة الإسلام وموسيقيّيه، في سياق انفتاحهم على تراث الروم والفرس والإغريق، أن يربطوا بين الشعر والغناء، وبين صناعة اللُّحون وصناعة العروض الذي تنبثق منه التآليف الشعرية المخصوصة، منذ أواخر القرن الثاني للهجرة. ذلك ما يشير إليه ابن خلدون، بقوله: «وأما العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشعر، يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها المتحركة والساكنة، وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة في بحر تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتاب الموسيقى».
لقد ثبت في فكر هؤلاء العلماء أنّ الموسيقى والعروض فِطْرتان، ومن ثمّة أدركوا أنّ العروض العربي يقوم على أساسٍ موسيقيٍّ بما تقتضيه الموسيقى من نِسْبة وتَناسُب، وهو ما اجتهدوا في إبرازه ومحاولة تفسير مضمراته الإيقاعية. ولقد بدا لنا من كتاب «الأغاني» للأصفهاني كيف تطوّرت العلاقة بين الموسيقى والعروض، حيث نجد تداخُلا بين الصناعتين، إذ غدا الشعراء يبنون قصائدهم ومُقطّعاتهم وفق القواعد الموسيقية، ويصوغونها على منوالها، مثلما أنّ الموسيقيّين والمُغنّين يلحنون بحسب ما تقتضيه أعاريض الشعر، ويكيّفون ألحانهم لتتلاءم مع الأشعار بمقادير نغميّة مختلفة عن بعضها بعضا في الحدّة والثقل، وبين القوّة والضعف، لأنّها إذا اختلفت في السمع كانت أعجب إلى السامع، وأحسن في مسموعه من أن يتكرّر على أذنه شيْءٌ واحدٌ بعينه، كما يقول ابن المنجِّم في «كتاب النغم».
ففي سياقات حديثهم الطريف ومتفاوت القيمة في الموسيقى عن أحوال النغم من جهة تأليفه اللذيذ والنافر مما يدخل في التلحين، وعن أحوال الأزمنة المتخلّلة بين النغمات من جهة الطول والقصر مما يدخل في الإيقاع وهو المسمّى أيضا بالأصول، انشغل أكثرهم بعلم العروض على اعتبار أنَّه نوْعٌ من أنواع جنس «العلم الموزون»، إلى جانب علوم الحساب والهندسة والجبر والمنطق، وهو الذي يُعنى بالنظام ووحدة الحركة والسكون.
في إحدى رسائله، يشير الجاحظ إلى أنّ «العروض من كتاب الموسيقى، وهو من كتاب حدّ النفوس، لا تحدُّه الألسن بحَدٍّ مقنع، قد يُعرف بالهاجس كما يُعرف بالإحصاء والوزن». فالموسيقى تتكوّن من عنصرين جوهريّين، هما: الصوت والزمن. ومثلما وُضِعت الموازين الموسيقيّة لقياس أجزاء الأصوات وضبط إيقاعها، وُضِع عروض الشّعر لقياس مقاطع الحروف وأجزاء الكلام تبعا لمبدأ مُحدّد من تناسب الأصوات والأزمنة. وهذا ما جعل مسكويه يرى أن الموسيقى ووزن النّغم ومقابلة بعضها بعضا مركوزة في الطباع والنفس التي تدفعها الجبلّة على قبول حركاتٍ بعينها دون أخرى، قائلا: «وتلك الحركاتُ المقبولة هي النِّسَب التي يطلبها الموسيقيُّ، ويبنى عليها رأيه وأصله. والعروضيُّ إنَّما يتّبِع هذه الحركات والسكنات التي في كلِّ بيتٍ فيُحصِّلها بالعدد، وبالأجزاء المتقابلة المتوازنة. فإنْ نقص جزء من الأجزاء ساكنٌ أو متحرّكٌ فإنّما يَجْبُره المُنْشِد بالنغمة حتّى يتلافاه، فمتى ذهب عنه لم يستقم في ذوقه، ولم يساعد عليه طبْعُه».
ويُفرّق الطوسي في رسالته المختصرة في الموسيقى، بين العلم بالتأليف والعلم بالإيقاع؛ فإذا كان الأول يتعلّق بـ«نسب الأصوات الواقعة في النغم المختلفة في الثقل والحدّة» على وجْهٍ تقبله الطِّباع، فإن الثاني يعني «النظام الواقع بين أزمنة السكوتات المتخلّلة بين النقرات والنغمات، ومنه أوزان الشعر». لهذا، فإنّ الموسيقى وعَروض الشِّعر يرجعان إلى جنْسٍ واحدٍ هو التأليف والمناسبة بين الحركة والسكون، وكلاهُما صناعةٌ تنطق بالأجزاء الموزونة، إلّا أنّ الشعر يختصُّ بترتيب الكلام ومعانيه وفْقَ نِظامٍ عروضيٍّ مخصوص، فيما تختصُّ الموسيقى بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون وإرساله أصواتا على نِسَبٍ مؤتلفة بالكمّية والكيفيّة في طرائق تتحكّمُ في أسلوبها بالتلحين. ويذهب الفارابي إلى أنّ صناعة الشعر والأقاويل الموزونة والمسجوعة معا هي أقدم في الوجود، بوجْهٍ مّا، من صناعة الألحان، حتّى أكّـد أن «الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية، وأن غاية هذه أن تطلب لغاية تلك».
الإيقاع أشمل من الوزن
قياسا على التناسب العددي يتناول الطوسي «الأبعاد» الموسيقية، كبارا وصغارا، ويبيّن كيفية معرفة نسب النغمات التي يتألّف منها كلٌّ منها، كما يذكر أنّ الأصوات الواقعة في الألحان لا تكون مقبولة في السمع إلّا إذا كانت على نِسَب الأعداد التي ذكرها، وكانت مُرتّبة فيها بحيث لا يُحسّ التفاوت بينها وبين المقبولة، ونسب أحوال النبضات المختلفة في القوّة والضعف وفي المقدار، بحيث أن تكون على هذه النسب حتى تكون منتظمة. ويُعرّف صفيّ الدين الأرموي النغم بين الحدّة والثّقَل، كما يذكر قَوْلا مُجْملا في أزمنة النغم، وفي أصناف الإيقاعات المشهورة عند العرب من أرباب صناعة اللحون قديما. وعلى خُطى سابقيه، يظهر تأثُّره بنظرية فيثاغورس في التناسب العددي داخل كتابه «الأدوار في الموسيقى»؛ إذ ينظر في تدوين نغم الألحان بأجناسها وإيقاعاتها، ويستخدم في الأمثلة التي ساقها حروفا هجائيّة دالّة على النغم، ومقرونة بالأعداد لِتدُلّ على مَدّات أزمنتها في أدوار الإيقاعات. يعرّف الأرموي الإيقاع بأنّه «النّقْلة على النغم في أزمنةٍ محدودة المقادير والنسب. وكما أنّ عَروض الشِّعر متفاوتة الأوضاع مختلفة الأوزان لا يفتقر الطبع السليم فيها إلى ميزان العروض، كذلك لا يفتقر إلى إدراك تساوي أزمنة كلِّ دوْرٍ من أدوار الإيقاع إلى ميزان يدرك به ذلك، بل هو غريزة جُبِل عليها الطبع. عبر «ميزان الطّبع السليم» يتمُّ إدراك تساوي الأزمنة والأدوار، ولهذا يرى أن بين الشعر والإيقاع تَناسُبا مّا من وجه، وهو أنّ أدوار عَروض الشِّعر كما تكون في الأوضاع متقاربة وفي الأوزان مختلفة. والشخص الذي أُعْطيَ الطبع السليم لا يفتقرُ في إدراك تساوي كلِّ دوْرٍ منها إلى ميزان العروض. كذلك الإيقاع، فإنّ من أُعطي الطّبْع المستقيم لا يفتقر في إدراك تساوي كلِّ دوْرٍ من أدوار الإيقاع إلى ميزانٍ يُدْرِك به ذلك، بل الغريزة التي قد جُبِل هو عليها تكون كافية في ذلك الإيقاع.
وإذن، لم تكن الموازين في الموسيقى ولا أقيسة العروض في الشعر مجرّد قوالب جامدة وصوريّة تُصبُّ فيها المعاني كيفما اتّفق، وعلى أيّ وجْه كان؛ بل هي تجري فيما يُشاكلها من الطبائع وأحوال الإنسان، وتُوضع على هيئة مخصوصة تميل لها النفس وتقبلها الطِّباع. وقد خصّ الكندي هذه المسألة بنظرٍ في «رسالة في اللحون والنغم»، عندما تحدّث في النغم وأجزائه، ورأى أنّ المغنّين كان يتهيّأ لهم في المعنى ألحان ما تحتاج إلى جزء نغمةٍ، أو نغمة خرساء أو غير ذلك ليحزنوا بذلك أو يطربوا، أو ينقلوا النفس إلى أيّ الحالات كانت. وذلك حديث آخر.
٭ شاعر مغربي
عبد اللطيف الوراري