أغنيات في مطب الأخطاء اللغوية
بغضّ النظر عن مضمون الأغنية السياسي المباشر، نلاحظُ كثرة الأخطاء الإعرابية في أداء كلماتها يمن مونيتور / العربي الجديد
تُظهر إطلالة سريعة على الأغاني المقدَّمة في المهرجانات الصيفية، التي تُقام حالياً في أرجاء البلاد العربية، اعتمادَ نصوصها، أساساً، على العربية المحكية ولهجاتها، بينما يُؤدّى القليل النادر منها بفصيح الضاد وسجلّها العالي. ومن بين هذا النادر، وقد شدَّ إليه أنظار الجماهير في أيّامنا، أغنية “صفقة القرن”، وهي من كلمات عماد الدين طه، وأداء المطرب التونسي لطفي بوشناق.
وبغضّ النظر عن مضمون الأغنية السياسي المباشر، نلاحظُ كثرة الأخطاء الإعرابية في أداء كلماتها. فرغم أن أبياتها قليلة، ارتكب بوشناق، خلالها، أربعة أخطاء نحوية فادحة، حين أنشدها لأوّل مرّة على مسرح “قلعة الشقيف”، خلال مهرجان صور في لبنان. والمأمول تلافي ذلك في مستقبل الحفلات.
في البيت الأوّل، أنشد: “أوْ لَمْ تُقْرَعُ”، برفع آخر الفعل، مع أنَّ حُكمه هنا هو الجَزم بعمل “لم الجازمة”، ثم قال: “وجميعُ حروفُهُمُ علّة” برفع الفاء عوض كسرها في الكلمة التي هي في موقع مضاف إليه، ثم استرسل: “وحديثٌ عن حربٍ كبرى أو صفقةُ قرنٍ”، بالرفع رغم أن حكمها الجرّ بـ “عن”، بما أن الكلمة معطوفة على “حربٍ”، وأخيراً: “سليمان العصر الحالي مشغول في ملء… “، والأصل “مشغول بملء”. هذا إضافةً إلى أخطاء في الأسلوب، حيث تضمّن القصيد فائضاً ممجوجاً من الصور والعبارات والتراكيب، ناءت تحت ثِقَله البنيةُ العروضية للبيت الشعري، في شُحَنٍ لا تتناسب البتّة مع انسياب اللحن وخفّة التصوير وقرب المعنى، فضلاً عن الإثقال بتضمين عبارات أجنبية مثل: “أونَ ألا دُوّيهْ”، و”بازار”.
هل للمصحح اللغوي وضع ثقافي وقانوني في المسار الفني
قد تُعلَّل هذه الظاهرة بضعف التكوين اللغوي لدى الفنّانين المعاصرين؛ ضعفٌ يحرمهم الإحساس بدقائق البيان وتحوّلات المعنى الناتجة عن تغيّر حركات الإعراب، مع “أنَّ الألفاظَ مغلقةٌ على مَعانيها حتّى يكونَ الإِعرابُ هو الذي يفتحها، وأنّ الأغراضَ كامنةٌ فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها وأنه المعيارُ الذي لا يُتبيَّنُ نُقصانُ كلامٍ ورُجحانهُ حتى يُعرضَ عليه”، كما قال مؤسّس البلاغة الجرجاني.
وربّما نُفاجَأ إذا علمنا أنَّ لهذه الظاهرة سوابقَ، حتى لدى كبار الفنانّين، ومن أشهرها ما حصل مع محمد عبد الوهاب في رائعة “سهرتُ منه الليالي”، وهي من كلمات حسين أحمد شوقي، حين قال: “ما أقصر العمر حتّى نُضيعُهُ في النضال”، دون فتح العين المنصوبة بعمل “حتى” قبلها.
وكذلك ما حصل في أغنية لأم كلثوم، من كلمات نزار قباني، حيث ترد هذه الجملة: “أيها المعلم الكبير.. كم حزنُنا كبير؟”، مع ما فيها من ضعفٍ في التركيب واضح، في مفارقة تامّة مع ما عُرف عن كوكب الشرق من حرصٍ على جزالة التعبير ومتانة الصياغة. فقد كانت، حين تنتقي القصائد، تراجع اختيارات الشعراء المعجمية، بل وتتصرّف في نصوصهم بجرأة المتمكّن، وقد تُغيّر بعض الكلمات إذا لاحظت أنها لا تتواءم مع أجواء القصيدة الرمزية ولا تتماشى مع الذائقة السليمة، وقد تعمد إلى حذف بعض الأبيات أصلاً، إذا رأت، بحساسيتها الفنّية، أنها لا تتّسق مع أسلوب النص وهويتها العميقة. ولكل قصيدٍ “هوية أسلوبية” كما أكد بول ريكور.
وفي هذا الصدد، يجدر التذكير أن نزار قباني، أكثر شاعر فصحى، يحضر في الأغنية المعاصرة، لم تخلُ نصوصه من أخطاء إعرابية وتركيبية.
وبقطع النظر عن هذا البعد النحوي – الأسلوبي، تعيدنا هذه الظاهرة، وليست بالهينة حتى يُسكَت عنها، إلى جوهر القضية؛ وهو سياسة الإفقار الثقافي التي يعاني منها الخطاب الفنّي العربي. ومن تبعاته الخطيرة، غياب المضامين المعمّقة والتعابير المنتقاة التي يُوصَل إليها عبر تعمّق الفكر وتجويد النظر. فالاقتصار على السجلّ الدارج أو على مقابله الركيك، وإنْ من الفصيح، يخنق دائرة التأويل ضمن المفاهيم القريبة، فلا يسمح للخيال بالتجنيح، ويحرم الفكر من مكابدة لذّة العبور إلى المعنى، تأويلاً واجتهاداً.
ومن بين عوامل تفاقم ضعف الملكة اللغوية، غياب “المدقّق اللغوي” أو “الُمراجع”، الذي من المفترض أن يشتغل مع الفنّان، على الأقلّ في مرحلة الإعداد للأغنية والمران عليها. ولا ندري أصلاً إن كان للمصحّح وضع قانوني/ثقافي واضح في المسار الفني. لكن الأكيد أن غيابه كفيلٌ بإيقاع حتى أكبر الفنّانين في مثل هذه المحاذير.
ويمكن أن نربط هذا الغياب، وما يترتّب عليه من هِناتٍ، بالعامل الاقتصادي، وهو حاضرٌ بشدّة وإن أخفاهُ أهل الفن، إذ صار إنتاج أغنية وتوزيعها والترويج لها مساراً مالياً بالدرجة الأولى، يُشرف عليه القائمون بأعمال الفنّانين ومُحاسبوهم. وربما لا يفضّل هؤلاء انتداب “مصحّح لغوي” حتى لا تثقل تكاليف الإعداد والإنتاج. ولا حاجة للتأكيد بأنَّ هذا العذر، إن وُجد، أقبح من أخطاء الإعراب وأفدح.
وقد تُسهم مواعيد المهرجانات وضغوط الإعداد لها خلال مدة قصيرة من الزمن، فضلاً عن غموض (أو انعدام) استراتيجيات، طويلة المدى، لإنتاج النصوص وانتقائها حسب “خط فني” واضحٍ، في مفاقمة هذه الظواهر السلبية وإشاعتها.
وهكذا، وفي الوقت الذي يُسجَّل فيه لكاتب الكلمات عماد الدين طه والمطرب لطفي بوشناق جرأتهما على تناول “صفقة القرن” ضمن فن ملتزم، فإنه يُسجَّل عليهما، في المقابل، ضمور ثقافة التدقيق والمراجعة للتأكّد من سلامة البناء اللغوي وجزالته.
وليس دور الفن، وهذا من بديهيات القول، نقد الواقع السياسي بشكل مباشر، بل التعالي به عبر جمالية النظم ومتانة البناء وتجانس النصوص المنصهرة في ثنايا ذاكرته. بل لعلّ وظيفة الفن، التي أراد أن ينهض بها بوشناق عبر أدائه هذه الأغنية، لا تتحقّق إلا بمراعاة القيود الشكلية، والإعرابُ والعَروض أولاها، بل وأعلاها، “وعلى الفنّان أن يرقص في أغلالها وقيودها”، كما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، وإلّا استحال كلامه، وقد وَهت منه الأركان، مجرّد تمثيلٍ بارد للواقع، وهو ممّا يُسقطه في محادثات الاستهلاك اليومي ومألوف الخطاب.
فهل يعود فتور الاهتمام بالسلامة اللغوية للأغنية إلى التعويل على قلّة بضاعة الجمهور من الرصيد النحوي؟ أم تراه يرجع إلى الاتكاء على الإيقاع، عساه يُغطي هِنات هذا الرصيد لدى الفنّان أصلاً؟