كتابات خاصة

معالجات داء التحشيد الطائفي

محمد عزان

في الجزء الأول من هذا المقال أشرت إلى أن المذاهب المتسامحة في اليمن تعرضت لاختراق من الجماعات المتطرفة استُحضرت كثيرا من الخلافات التاريخية ذات الطابع السياسي، باعتبارها المخزون الأكبر لتجاذبات وأخطاء الفُرقاء.

في الجزء الأول من هذا المقال أشرت إلى أن المذاهب المتسامحة في اليمن تعرضت لاختراق من الجماعات المتطرفة استُحضرت كثيرا من الخلافات التاريخية ذات الطابع السياسي، باعتبارها المخزون الأكبر لتجاذبات وأخطاء الفُرقاء.
وفي المعالجات اعتقد أنه لا يمكن الحد من بلاء المزيج السياسي المذهبي من خلال قواعد تفرضها الدولة، أو رقابة تنفذها مؤسساتها، أو مجرد اعلان اتفاقيات ومواثيق، وإن كان شيء منها قد يساعد إلى جانب منظومة إجراءات ينطلق بها الجميع برمته، لأن الدولة والمؤسسات ذاتها مصابة كغيرها بداء التمذهب السياسي، فهي من نسيج المجتمع المتأثر بكل ما يجري فيه من فرز واستقطاب وشحن وتحريض. فضلاً عن أن الدولة إذا دفعت نحو خيارات معينة بالإكراه فإن ذلك سيولد حالة من التمرد والشعور بالمظلومية التي تصنع مقاومة مقدسة في نظر كل من يشعر أنه في دائرة الاستهداف.
ولكننا إذا فتشنا في أعماق أسباب الصراع البشري فإننا سنجده يرجع إلى أحد أصلين هما: الخوف أو الطمع.
·      أما «الخوف» فينشأ نتيجة تصرفات طرف توحي بأنه يسعى لإلغاء الآخر وطمسه، أو سحقه واضطهاده، وهذا ما يجعل الطرف المتخوف يبحث عمن يشاركه تلك المشاعر، فيشكل معه جبهة تنشأ – حتى دون كثير من التخطيط والترتيب – وتلقائياً يلتحق بها كل متخوف من الطرف الآخر وإن اختلفت أسباب مخاوفهم.. سياسية كانت أو مذهبية أو اجتماعية أو حتى تجارية أو تاريخية، حتى أننا نجد أحيانا ما يشبه التناقض حينما نجد الإسلامي مع الليبرالي يشكلان جبهة ضد طرف إسلامي أو ليبرالي، أو حتى جماعة شيعية وسنية تشكلان جبهة ضد طرف شيعي أو سني. وما ذلك إلا لأن مخاوف معينة حضرت وغاب سواها، وكلما أمَّن كل فريق الآخرين من نفسه التحموا معه، وانتقلت المخاوف إلى الأبعد فالأبعد.
·      وأما «الطمع» فهو ما يعبِّر عنه كل بالعمل على بسط سيطرته واستحكام نفوذه على أكبر قدر ممكن من خيرات الأرض، ومقومات التميز، وعوامل البقاء. وعلى تلك الأشياء نشبت الصراعات بين الناس على مر العصور، ولا يزال المختصمون عليها يتفننون في أساليب الصراع، ويطورون آلات الفتك والدمار حتى صارت كفيلة بالقضاء على الجميع وما يتصارعون عليه من خيرات الأرض ومُلكها.    
ومن اللافت أن كثيرا من معالجة آثار الطمع كامنة فيه، ومنها: أن تكون دائرة السيطرة والنفوذ تلبي مطامع الجمهور الأعظم من الناس، مما يجعلهم يلتفون حولها، وبالتالي تختفي ظاهرة الصراع، لأن مطامع الجميع تتحقق وإن بنسب متفاوتة. ولهذا السبب لا نرى كثيراً من الصراعات ولا حضوراً للعصبيات في المجتمعات التي تتاح فيها الفرص للجميع وتتهيأ لهم أسباب العيش وتتاح لهم حرية التعبير والتفكير، فإذا أتيح لهم ذلك زالت أسباب التمترس والتحشيد والنفخ في العصبيات، وفضَّل الجميع العيش مع بعضهم بسلام، وانصرفوا إلى ترتيب علاقاتهم، وفصلوا بين مشاعرهم الدينية وقناعاتهم الفكرية وبين طريقة التعامل مع الآخر.
·      ومن الاجراءات التي ينبغي أن تتخذ لتخفيف غلواء المزيج المذهبي السياسي المتعصب، وإبعاد المجتمع عن الفتن الطائفية:
1.     إبراز دور الوسط الذي ليست لديه عقدة ضد الآخر المختلف معه، ولا يعتقد أن وجود غيره خطر عليه، ولا يفكر في إخراجه لا من الحياة الفكرية، ولا السياسية ولا الطبيعية، ثم تتضافر الجهود لتوسيع دائرة ذلك الوسط، وتتاح له فرصة تقديم نفسه حتى يبدو كتيار واسع التأييد. عند ذلك سيسعى المتنافرون من أصحاب المزيج المذهبي السياسي، لاستقطاب ذلك الوسط، وسيدركون أن قبولهم لن يكون إلا بمقدار ما يكون لديهم من مرونة واستعداد لقبول الآخر كما هو، لا كما يريدون.
2.     تتبنى المؤسسات الرسمية ثقافة التسامح والتعايش، وتقوم بضخها من خلال قنوات التأثير مهما كانت انتماءات القائمين عليها، ويتولى فريق من النخب استحضار قيم التسامح من الدين الحنيف وتقديمها كنظريات للحياة الكريمة، وتمارسها بالفعل في سلوكها اليومي، حتى يثبت للمجتمع بكل أطيافه أنه لا يمكن لأحد أن يلغي أحداً، وأن التعايش والتسامح هو الخيار الأمثل للشعوب والمجتمعات، مهما اختلفت قناعاتها الفكرية وخياراتها السياسية. 
3.     تتولى كل مدرسة فكرية أو حزبية اسقاط هيبة وقداسة صنمياتها الفكرية والتاريخية التي تتسبب في تعميق الفُرقة والخلاف، وتجعل منها منصة لفتح النار على الآخر واستباحته والعدوان عليه وحرمانه من حق الوجود والعيش الكريم. على أن يكون العمل في ذلك على يد فريق من أبناء كل مدرسة لأنه أقرب للألفة والاعتدال وأبعد عن الوحشة والتطرف. شريطة أن يتم بطرق حكيمة حتى لا يتحول الأمر إلى صراع من نوع آخر، إذ المقصود اسقاط هيبة ما يتسبب في الصراع من قداسة مصطنعة فقط، دون إلغاء ما يحترمه أي فريق من الناس، إلا بالحجة والمنطق الذي يتقبله العقلاء، وليس بمجرد التنفير والتشنيع والتقبيح والتضييق والهجوم الذي يتبادله المتمذهبون في صراعاتهم.

*باحث وكاتب في الفكر الإسلامي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى