كتابات خاصة

في ذكرى رحيلك يا محمد

فكرية شحرة

– لا تسافر يا محمد.. في “عمران” حرب يا ولدي.

 جلس مسنداً ظهره للمتراس الإسمنتي خلفه ثم عدّل قبعته العسكرية بفخر قبل أن يتحسس سلاحه باعتزاز مماثلشعر برغبة ملحة في تبادل الحديث مع زميله في ثكنة الحراسة القابع خلف متراس آخر بالقرب منه. كان يعرف أنهما بعيدان عن خط المواجهة وأنهما مع آخرين في الخطوط الخلفية للمعركة في نوبة حراسة معتادة، ورغم أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص الذي يأتي متقطعاً إلى مسامعه إلا أنه لم يشعر بالقلق أو الخوف من اقتراب المواجهات، كانت تشمله طمأنينة عجيبة، ربما لأن صوت والدته ما زال في أذنيه كأنه الآن:
– لا تسافر يا محمد.. في “عمران” حرب يا ولدي.
كما يتذكر وعده لها ويجب أن يفي به:
–           لا تخافي يا أمه، يوم الخميس وأنا عندك.
مرّ الخميس الذي وعد والدته بالعودة فيه، واليوم هو الأحد من الأسبوع الثاني لوجوده في معسكر (اللواء 310) الذي يتصدى لاعتداء جماعة الحوثي على مدينة عمران, ولكنه سيحاول العودة الخميس القادم منتصراً كما يتمنى.. ستفخر والدته بشجاعته، فهو قد خلفها ملوعة القلب من أجل أم أخرى هي اليمن.. ابتسم وهو يتذكر قوله لها:
–           لن يشركونا في المعركة يا أمه، أذهب -فقط- لأثبّت وجودي كجندي في باللواء مفخرة الجيش اليمني وأرجع لك.. فقط أسبوع، والخميس وأنا عندكم.
كان متلهفا لخوض معركة حقيقية.. تسري في عروقه حماسة الشباب واندفاعهم، لكنه لن يصيب والدته بالهلع طوال فترة غيابه، فنداء الوطن لن يستثني مجنداً في الجيش، سيشل الهلع قلب والدته لفراقه والخوف عليه..
استوى قائماً في شجاعة، ورفع رأسه منادياً زميله بحماسة وانفعال في المتراس القريب:
–           يا حمزة.. الأصوات قريبة جداً من..
وقبل أن ينهي عبارته دوّى انفجار مهول هزّ الأرض تحت أقدامهما مثيراً عاصفة من الغبار والتراب والشظايا المتناثرة في كل مكان. لقد أصابت القذيفة خزان الماء الحديدي القريب وبعثرت الشظايا في كل اتجاه.. كانت عاصفة الغبار بعد الانفجار قد حجبت كل شيء حتى الضجيج وصوت محمد، لقد قذف به الانفجار بعيداً.. شعر بشيء ساخن ومحرق يضرب جبينه بقوة، زاغت عيناه ولم يفقد الوعي.. كان يرى نفسه في ضبابية تشبه موجة الغبار التي أحدثها الانفجار، رأى نفسه مجنداً لم يرفع السلاح في وجه أحدٍ بعد، ولم تلطخ كفاه بأي دماء أبداً.. رأى نفسه فتى صغيراً كثير الصمت تعلو شفتيه ابتسامة خجولة، فتى صغير بقلب رجل كبير، يعشق طقوس القبيلة والتزاماتها، رأى والده عاملاً يكدح طوال اليوم ويعود في المساء تعلوه سحابة غبار وتعب تشبه موجة الغبار التي أحدثها الانفجار.. رأى نفسه شاباً يافعاً يحاول عبثاً أن يكون عوناً لهذا الأب المكافح الصبور الذي أفنى عمره محاولاً هزيمة العجز لصنع سقفاً يحمي أولاده الستة حتى لا يغتالهم الدهر لذلِ التنقل من سكنٍ لآخر.. رأى أمه بوجه حزين نحيل تضع حبوب القمح على قبر جميل، قد تعلقت الدموع بعينيها كشخص غريق يتمنى النجاة بصوت محمد.
كانت عينا محمد شاخصة تحدق في محمد بين ضباب الانفجار وهو يناضل طوال عمره الصغير كي يحقق حلماً راوده ألا يشعر بالحرمان من أشياء حُرمها كثيراً، في طفولته في شبابه وحين أصبح مقاتلاً لم يرفع السلاح أبداً.. رغم إلحاح والديه عليه لإكمال تعليمه إلا أنه قرر ترك المدرسة الثانوية لينخرط في أعمال كثيرة قتلت فيه طموح الشباب.. كم من الأمور لم يفعلها محمد في ضبابية حياة قصيرة تشبه ضبابية بعد الانفجار ملؤها الحرمان في وطن محبط؛ حتى إنه لم يكن ككل الشباب يلهو أو يلعب، كانت غيرته على كل شيء حوله  تشعره أنه مسئول عن حماية كل ما حوله.. يغار على الوطن، يغار على دينه، يغار على انتمائه، يغار على ثورة الشباب التي انخرط فيها بكل حماسة الشباب وأحلامهم.
كان مستلقياً في صمت إلا من هدير روحه التي تستعد للمغادرة في أسىٍ وهي تعدد سنوات الحرمان من كل ما يحق لشاب في عمره.. كان ممدداً هناك خلف المتراس الذي لم يحْمِه من شظية القدر لتنقل سني عمره الاثنتين والعشرين إلى القبرِ مكفناً بالحرمانِ من الحياة تماماً.
ابتسم لروحه المغادرة في أمل، ورفع سبابته في شهادةٍ أخيرةٍ للزمن أن لا إله إلا الله، هو من يستحق الموت في سبيله، والموت من أجل الوطن موت في سبيل الله.
بعد انقشاع سحابة الغبار التي أحدثتها القذيفة وصل عدد من الجنود إلى موقع الانفجار، تفقدوا المتراس حيث يقبع زميله حمزة الذي أطل منه يعلوه الغبار والتراب وصاح بلهفة:
–           هل اطمأننتم على محمد؟ كان يتحدث إليّ قبل الانفجار..
وقبل أن تصل إليه الإجابة أسرع يعتلي المتراس الإسمنتي ليجد رفيقه ممدداً غارقاً في دمائه. كانت سبابة يده اليمنى مشرعة في عناد، وعلى ملامحه طمأنينة الشهداء.
كان وجود الموت محزناً لرفاق محمد رغم أنه كان مألوفاً عندهم بسبب زيارته اليومية لهم، وكان مقتل محمد المفعم حماسة والممتلئ شجاعة أكثر وجعاً.
ربما كان محمد محظوظاً لمرة واحدة عندما لم يرَ بعينيه وقع خبر استشهاده على والديه وأقربائه.. ربما هو محظوظ أنه لم يرَ والده المعفر بتراب العمل الشاق حين أخبره إخوته أن محمداً غادر الحياة.. من الجميل أنه لم يرَ والده يرتعش في بكاء صامت عاجز عن الجلوس أو الوقوف من هول الفاجعة.. لم يخلف محمد وعده لوالدته، فقد عاد يوم الخميس!!
فقد أعاق وصول جثمانه اشتداد المعارك ونصب الكمائن  لخمسة أيام كاملة.
عاد محمد يوم الخميس كما وعد، الـ22 من يونيو 2014، وخرجت مدينة إب كلها لاستقبال محمد، وراحت تزفه في عرس حزين متألق، وهو محمول على أكتاف الرجال، والنساء يودعنه من بعيد بورود من زغاريد الفرح الذابلة.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى