فكر وثقافة

الأدب في جنوب اليمن: طريق متعرّج نحو الهامش

مع تصاعد أعمدة الدخان من الحرب التي يعيش على وقعها اليمن منذ سنوات، فإن الأدب يبدو وقد تحوّل إلى مجال غير مرئي حتى داخل الفضاء العربي الذي يتقاسم مع اليمنيّين نفس اللغة.

يمن مونيتور/ العربي الجديد

مع تصاعد أعمدة الدخان من الحرب التي يعيش على وقعها اليمن منذ سنوات، فإن الأدب يبدو وقد تحوّل إلى مجال غير مرئي حتى داخل الفضاء العربي الذي يتقاسم مع اليمنيّين نفس اللغة.
مؤخراً، نظّم “معهد الدراسات الشرقية” التابع لجامعة لايبزغ الألمانية، وبالتعاون مع “منتدى محمد علي لقمان للدراسات”، محاضرة تحت عنوان “المشهد الأدبي الحديث في جنوب اليمن: التحولات التاريخية والواقع المعاصر” قدّمها سعيد الجريري، أستاذ النقد الأدبي في جامعة حضرموت.
قدّمت الباحثة الألمانية أميرة أوغستين نبذة مختصرة عن المُحاضر، ولمحة عن موضوع المحاضرة مشيرة إلى أنها تطمح إلى تعريف الباحثين الألمان بتجارب إبداعية تنتمي إلى مناطق جغرافية ما زالت تقع على هامش خارطة الأدب والثقافة العربية، ولم تحظ بما تستحقه من الاهتمام الإعلامي والبحثي.
الجريري بدأ محاضرته بالإشارة إلى أهم تحوّلين عرفتهما التجارب الإبداعية على امتداد العالم العربي كله في العصر الحديث، بمختلف أجناسه وأشكاله الأدبية، وقد تمثل الأوّل “في التحوّل من الحكاية الشفاهية إلى كتابة الحكاية”، بينما تمثّل الثاني في “مغادرة النصوص العربية مضارب الفحولة إلى حدائق الأنوثة”.
بعد ذلك، دخل الجريري في صلب موضوع محاضرته، حيث قسّم المشهد الأدبي في جنوب اليمن وتحولاته التاريخية إلى أربع مراحل: مرحلة التأسيس والريادة في الحقبة الاستعمارية حتى عام 1967، فمرحلة الاستقلال الوطني والاتجاه الاشتراكي (1967-1990)، ثم مرحلة التراجع والنكوص (1994-2011)، وأخيراً مرحلة ما بعد 2011 التي شهدت تغيّرات وتحوّلات كثيرة في المشهد المحلّي والإقليمي.
في المرحلة الأولى، حدّد المحاضر عام 1927 باعتباره “التاريخ الذي شهد أول ريادة روائية على مستوى منطقة شبه الجزيرة العربية، بالتوازي مع الريادات الروائية في كل من مصر وبلاد الشام والعراق وغيرها، إذ أصدر أحمد عبد الله السقاف روايته العربية الأولى “فتاة قاروت” في أندونيسيا حيث تشكلت حركة أدبية وثقافية عربية مهجرية في الأرخبيل الهندي، لها صحافتها وأنديتها ورموزها الأدبية والثقافية”.
يضيف الجريري قائلاً: “تبع السقاف محمد علي لقمان بإصدار روايته الأولى “سعيد” في عدن عام 1939 وكان رائداً مؤسّساً في مجال الصحافة والأندية الأدبية والثقافية أيضاً. بينما شهد عقد الثلاثينيات من القرن العشرين ريادتين أخريين أولاهما ريادة رومانسية على مستوى منطقة شبه الجزيرة العربية، إذ كان الشاعر صالح الحامد وزميل دراسته في حضرموت علي أحمد باكثير الوحيدين اللذين يسهمان بنصوصهما الشعرية في مجلة الرومانسية العربية التي أصدرتها “جماعة أبولو” في القاهرة عام 1932، ثم صدور ديوان “ليالي المصيف” 1936 لصالح الحامد بتقديم الشاعر المصري أحمد رامي”.
يركز سعيد الجريري (الصورة من المحاضرة) على حالة علي أحمد باكثير (1910-1969) باعتباره صاحب ريادة تتجاوز اليمن إلى العالم العربي، مثل ترجمته عام 1936 فصلاً من مسرحية “روميو وجولييت” لشكسبير بطريقة الشعر الحر، ثم أتبعها بتأليف مسرحية شعرية هي”إخناتون ونفرتيتي” (1938) مؤكداً وعيه بذلك التجريب الذي تنسب الريادة فيه عادة إلى العراقيين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، بحسب ما قاله الجريري.
أما القصة القصيرة وظهور تجارب جديدة في كتابتها فيربطها الجريري بفترة توفر المطبعة وازدهار الصحافة وتشكل المجتمع المدني في عدن، بملامحه البارزة في التعليم الحديث والأندية الأدبية والندوات الموسيقية، كقصة “سعيد المدرس” لمحمد سعيد مسواط، ثم صدور المجموعة القصصية الأولى “الإنذار الممزق” (1960) لأحمد محفوظ عمر الذي يعد رائداً في هذا الفن على مستوى منطقة شبه الجزيرة العربية. ولأسباب موضوعية تأخر نسبياً إصدار مجموعات قصصية نسوية، لكن المرأة في عدن والمكلا لم تكن غائبة فهناك كاتبات في الصحافة منذ مطلع الستينيات، كالأديبتين سلامة عبدالقادر بامطرف وشفيقة زوقري.
في المرحلة الثانية، يُشير الجريري إلى أن “هناك قطيعة حدثت مع ما تم من تراكم ثقافي، تمثلت في إعلاء الثقافة الاشتراكية والاتجاه الواقعي في الأدب، سواء في الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية”، لكن في الجانب المقابل يشير إلى أنه “تم التخفف من ضغوط الثقافة التقليدية، والتمرّد على القيود الاجتماعية، وتجريب الأشكال التعبيرية المختلفة”.
يقول المحاضر: “شهدت هذه المرحلة ازدهاراً لفن القصة القصيرة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، إذ كانت الصحافة على الرغم من واحدية توجّهها الفكري تعنى بالمستوى الفني والجمالي، بالتوازي مع ما أحدثه من أثر إيجابي تأسيس كليات الآداب وتأثير اتحاد الأدباء والمثقفين اليساريين والأساتذة العرب والأجانب في تشكيل الوعي الجديد باتجاه الحداثة الأدبية”.
يُحدّد المحاضر المرحلة الثالثة بفترة ما بعد الحرب الأهلية (1994)، وقد سلّط الضوء على التراجع الذي ظهر جلياً في المشهد الأدبي الجنوبي، وأرجع أسبابه إلى أن عدن والمكلا ـ حواضر الجنوب ومستقر موارده الإبداعية – قد تحوّلتا إلى هامشين، فانكفأ على إثر ذلك بعض الأدباء على ذواتهم، أو اتجهوا إلى كتابة المقالة السياسية، في ظل الهامش المتاح ببعض الصحف المحلية.
لكنه يستدرك بأن “هناك قلة ظلّوا يشتغلون على تجاربهم في ظروف قاسية، فرفدوا تجاربهم بأعمال قصصية أو روائية جديدة، ليظهر جيل من الأدباء الشبان يُسائل اللحظة سردياً أو شعرياً ويبحث عن ذاته الإبداعية كشكل من أشكال مقاومة الهيمنة والتهميش اللذين طاولا الحياة العامة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً”.
بمصاحبة التغيرات الكبيرة التي حدثت في العالم العربي بعد عام 2011، كانت ملامح المرحلة الأخيرة تتشكل بقوة كما أوضح الجريري في محاضرته، وقد أرجع انبعاث هذا التحوّل إلى “حالة التململ الشديدة التي استمرت سنوات طويلة”، مشيراً إلى أن “جيل الشباب بات يُعيد تشكيل ذاته وتنظيم طاقاته في أندية ثقافية ومجلات أدبية تستثمر ما في الفضاء الإلكتروني من إمكانيات متاحة نحو بعث انطلاقة جديدة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى