كتابات خاصة

زفرة شتات

فتحي أبو النصر

الوحشة تطاردك.. العاصمة صارت وكراً لصناعة الموت.. كل الصحف تمنع وتتوقف.. متاهات نفسية، خوف من الواقع، تشرد وهروب.

فجأة تصبح بلا جدران تؤويك ولاسقف.. وكل ما حولك مجرد مليشيات فقط تعربد وترعب المجتمع وحرياته.. الكلاشينكوف هو أداة الإنتاج الوحيدة في اليمن.

الوحشة تطاردك.. العاصمة صارت وكراً لصناعة الموت.. كل الصحف تمنع وتتوقف.. متاهات نفسية، خوف من الواقع، تشرد وهروب.
يخبرك زميل بأهمية خروجك من البلد.. لكن من الصعب أن تغادر لأن قيمة تذكرة السفر على طيران اليمنية بتكلفة باهظة لن تحتملها.. يحدث أن تساعدك منظمة فريدرتش ايبرت على الخروج عبر عدن وعمان للمشاركة في بيروت بفعالية عن الصحافة الحساسة في ظل النزاعات؛ تعلَق في بيروت بانتظار تأشيرة مصر.. تكابد شتى أصناف المرارات، تدخل مصر بعد انتظار تجاوز الشهرين، تحاول ترتيب وضعك النفسي الجديد بلا فائدة.. تسكن لدى صديق، ويدعمك أصدقاء في مصروفك، وكل يوم تتابع أخبار بلدك وتبكي نهاية اليوم.
تشتاق لزوجتك وصغارك، الشتات سيد الموقف، وليس لنا حيلة أمام العجز إلا التوكل على الأقدار.
لكنك تكافح على مدى 8 أشهر من أجل ان يدخلوا مصر.. تبيع أثاث شقتك المستأجرة بصنعاء وتستدين من هنا وهناك لتستوفي قيمة التذاكر لعائلتك.. تستأجر شقة وتحاول تأثيثها بوسط القاهرة،  قطعة وراء قطعة، ومذلة بعد مذلة.. وبشكل متواضع وبسيط تستوفي أساسيات التأثيث، تصل العائلة بعد رحلة شاقة ومرهقة.. لا تشفى من الحب.. لكنك تكتشف مشاعر خاصة كنت تجهلها قبل الحرب.
أنت الآن تعشق مصر التي في خاطرك منذ وعيت نفسك.. لكنك قادم من حرب فظيعة، ولذلك تزيد همومك خصوصا مع شعور مركب بالجدوى واللاجدوى.. باليقين واللايقين أيضاً.. وكثيرا ما يتخللك إحساس طاغ بالخيبة، لكن أصدقاء يعملون على مواساتك عاطفيا وبنبل شديد؛ مع ذلك تشعر أنك تمشي على حبل مشدود بين ضفتين وهاوية.. إنه شعور الاغتراب الذي ينهشك من الداخل.. أخبار الحرب ومآسيها وفقداناتها اليومية.
استمرار مكابداتك الذاتية بتفاصيلها اليومية معيشيا وانسانيا.. ومع ذلك تقاوم بالحب والإرادة عوامل الانكسار والانهيار، تقول لنفسك كطفل صغير ويخاف: “إنها دعوات الأم البعيدة التي تشتاق لها هي التي ما زالت تنجيك”.
أما الآن، فأظن اننا كلنا كيمنيين نخاف من الحرب ونخاف من السلام.. نخاف من الازدراء الوطني الحر ونخاف من الطرق الوحشية للدفاع عن التعايش.. نخاف من المستقبل ونخاف من الماضي.. نخاف من الرغبات ونخاف من الإحتمالات.. نخاف من الدماء البريئة ونخاف من حكايات التيه.. نخاف من أطفال القتلى ونخاف من القادة العابثين، نخاف من فتنة عصبياتنا ونخاف من مطامحنا المتناقضة.. نخاف من مرايانا الشريرة ونخاف من الهروب للأمام.. نخاف من فقه التقية ونخاف من فقه الضرورة.. نخاف من الاصطفاف العبيط ونخاف من الانقسام الملحوظ.. نخاف من البلاد التي انهارت ونخاف من قهقهات المتارس.. نخاف من النفاق القبلي ونخاف من البشاعة المدنية.. نخاف من أزقة الحارات الضيقة ونخاف من مطارات العالم!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى