الصين “تنين” حقيقي، لا مجازي
قبل عشرين عاماً، رافقت الرئيس علي عبدالله صالح -رحمه الله- في زياراته إلى عدة دول، بينها وأروعها: الصين. وهي المرة الأولى والوحيدة التي أزور فيها هذا الكوكب الجبار.
أول ما يلفت انتباه الزائر -ناهيك عن الصحافي- لتلك البلاد، أنها عملاق بكل معاني العملقة، ليس سكانياً فقط، انما سياسياً أيضاً.. وليس اجتماعياً فحسب، انما اقتصادياً كذلك.. والعملقة الاقتصادية هي الصفة الأكثر انسجاماً مع الحقيقة الصينية، كما عايشتها خلال تلك الزيارة التي كانت قصيرة بلغة الزمن وحساب الوقت، ولكنها بالغة العمق بلغة التجربة وحساب المعرفة.
الصين “تنين” حقيقي، لا مجازي. تجاوز حدود الأسطورة إلى تخوم الواقع، وجمع بين الحقيقة والخيال بصورة بالغة الفرادة. وأنت تكاد تعجز عن ادراك شيء لم يزرعه أو يصنعه أو يبنيه أو يبدعه الشعب الصيني الذي فاقت عظمته عظمة سوره العظيم، وتفوَّق حاضره على ماضيه -عكس الكثير من الشعوب- بصورة هندسية وفلسفية شديدة الاعجاز ومدهشة الامتياز.
والصينيون قوم في غاية البساطة، واِنْ لم يكونوا في غاية الانبساط. ولعلهم الشعب الوحيد الذي أستطاع أن يجمع -بصورة متميزة- بين العظمة والتواضع، بين الجبروت والسكينة، وبين الشموخ والطيبة. وهاهم اليوم -بعد ذاك الزمن- يقفون على قمة العالم، بكل العظمة والجبروت والشموخ.
الصينيون شعب يأكل كل ما في الجو، عدا الطائرة.. وكل ما في البحر، عدا الباخرة.. وكل ما في البر، عدا الانسان! .. وإذا كانت هذه المقولة الشائعة لا تفي الصينيين حقهم، كونها استهلاكية الدلالة، فإن الطبيعة الانتاجية الجبارة والطاقة الابداعية الخلاقة لهذا الشعب تتجاوز كل المفردات المتوافرة في جميع القواميس منذ ميلاد اللغة في التاريخ.. وهم يُسطّرون أسطورتهم الخاصة في أرض الواقع بأيدٍ من حديد، لكنها مُغطّاة بقفازات من حرير!
فالصينيون ينتجون ويبدعون كل ما يتخيّله المرء وكل ما لا يخطر على بال. وقد صارت منتوجاتهم وابداعاتهم تغطي كل أسواق العالم. وليذكر أحدكم -لو أستطاع، وهذا محال!- سلعة صينية واحدة لا تتوافر على خارطة البيضة الأرضية من أقصاها إلى أدناها، حتى أن عبارة Made In China (صُنِعَ في الصين) غدت أكثر انتشاراً وتأثيراً من عبارة In god we trust (نثق في الله) المطبوعة على وجه الدولار!
من أضخم الوسائل الناقلة في البر والجو والبحر، إلى أشهق المباني المنشأة في زمن قياسي، إلى أدق الأدوات تعقيداً في كل مجال ولكل غرض، من التقنية الحديثة والأقمشة المعاصرة والأثاث والاكسسوار، ومن البوارج والأبراج إلى البراغي وأعواد الثقاب، وكل ما تفرضه الحاجة البشرية وحتى الحيوانية والنباتية والجامدة باعتبار “الحاجة أُمّ الاختراع” وقد صار الاختراع ظاهرة صينية في عالم الصناعة ومفردة صينية في قاموس الابداع. وباختصار شديد للغاية: الصين ورشة العالم بحق وحقيقة!
…
خلال زياراتي للقاهرة -منذ بضع سنين- عرفت من بعض الأصدقاء هناك أن الشارع المصري صار مُكتظّاً بالسلع الصينية في أكثر المجالات حميمية، أي تلك الصناعات الحرفية ذات الطابع الشعبي التقليدي العريق، حتى تلك الأطباق الفولكلورية التي تحمل لوحات ذات هوية فرعونية والتي يشتهر بها زقاق خان الخليلي منذ قديم العهد، صارت صناعة صينية بالغة الاتقان وزهيدة الأثمان! .. حتى فانوس رمضان جاء اليوم الذي صار فيه صينياً ! .. والأمر ذاته يتصل بجلابية الصعيدي ومقطف الفلاح وشبكة الصياد ومحفظة التلميذ وحذاء الموظف!
وأزدادت دهشتي يومها حين راح صديقي المصري عماد يحكي لي كيف أن الأثاث الدمياطي الأكثر شهرة وعراقة من تابوت المومياء صار سقط متاع في السوق المصرية بعد أن غدا الأثاث الصيني هو سيد الموقف في تلك السوق! .. والأنكأ في هذا الأمر أن الصينيين أستقدموا عمالهم إلى دمياط لمعرفة سرّ الصنعة، كما راحوا يستوفدون العمال المصريين المهرة في هذا المجال إلى الصين لتدريب العمال الصينيين هناك!
قال صديقي عماد مُعلّقاً على هذا المشهد بلغة قاتمة السخرية: مش ناقص غير يصنّعوا لنا الأهرامات وابوالهول! .. وبهتَ حين وجدني أصدمه بقولي: لا تعجب يا صاحبي إذا حدث ذلك فعلاً في قريب الأيام!
عدتُ من القاهرة يوماً، ورحت أتجول في حواري وأسواق صنعاء، فاذا بي أجد القبيلي اليمني Made In China من سماطة الرأس إلى الزنَّة واللباس الأسفل والصندل.. آه ، نسيت شيئاً أهم: الجنبية.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور