قبل مقتله بثلاثة أسابيع فقط، كتبتُ مُتمنّياً لو أنه رحل عن السلطة -فعلاً لا شكلاً- يوم طلب منه الناس ذلك، ولم يكتفِ بالتنازل عن الحكم -ديكورياً- لنائبه. ففي مقالي بعنوان “ليته فعلها ورحل!” المنشور في هذا الموقع، يوم 13 نوفمبر المنصرم، كتبتُ نصاً:
قبل مقتله بثلاثة أسابيع فقط، كتبتُ مُتمنّياً لو أنه رحل عن السلطة -فعلاً لا شكلاً- يوم طلب منه الناس ذلك، ولم يكتفِ بالتنازل عن الحكم -ديكورياً- لنائبه. ففي مقالي بعنوان “ليته فعلها ورحل!” المنشور في هذا الموقع، يوم 13 نوفمبر المنصرم، كتبتُ نصاً:
“إني أرى الموت يتراقص بين عينيه اليوم، برغم أن الأعمار بيد الله وحده. وكم كنت أتمنى أن يرحل الرجل عن هذه الدنيا الفانية وقد أسَّس لهذا التقليد السياسي الدستوري الرائع في حياة هذا الشعب الضائع.. غير أن المُدْبِر مدبر.. فقد أدبرَ نفسه وأدبر شعباً بأكمله.. وما يتوالد في البلد اليوم من المآسي والويلات، وما سيستتبعه غداً وبعد غد، ليس إلاَّ ثمار الشوك والعلقم التي بذرها هذا الرجل في الطين، على مدار عشرات السنين، وهو يدري أن حصادها المُر لن يكون في طبقه يوماً، إنما في طبق شعب ساد أجداده الزمان وضاق على أحفاده المكان”.
لكن يبدو أن بريق السلطة يُعمي البصر، وشهوتها تُطيح بالبصيرة. يأتي أحدهم من مرعى الماشية أو حقل الذرة، ليلتحق بالكلية الحربية -أو بالثكنة العسكرية من دون المرور بالكلية حتى- ليقفز بعد بضع سنين إلى كرسي الرئاسة. وبعدها ينسى محتده البسيط، ويتناسى بالتالي أوجاع الفقراء وأحلام البسطاء.. فالسلطة شيطان من نار غشوم.
…
يومَ خُلع عفاش عن الحكم -أو تنحَّى مغصوباً- جاء بنائبه خلفاً له، لاعتقاده بأنه سيغدو خاتماً في خنصره أو كرتاً في يده كعادته في التلاعب بالكروت! .. لكن البدوي انقلب على القبيلي، اِذْ أدرك أن خروجه من ظل رئيسه التليد أو من جلبابه، سيُأمّن له الطريق إلى السلطة المطلقة، بعد أن ظل شاهد زور عليها أيام كان نائباً للرجل الذي طالما رقص على رؤوس الأفاعي ورقاب البشر!
…
بعد أيام قلائل على مصرع عفاش، عادت إلى الذاكرة ذكرى مأساة 13 يناير 1986. وقد نجا خلفه منها حين كان نائباً لرئيس أركان الجيش في الجنوب يومها، نازحاً إلى الضفة الأخرى من الأرض التي كانت تحت سيطرة رئيسه اللاحق وغريمه لاحقاً، في الوقت الذي كان نائبه الحالي هو من وضع قدميه على البساط الأحمر يوم اندلعت الحرب الأهلية في صيف 1994 باختياره وزيراً للدفاع أثناء الحرب، وهو المنصب الذي قاده إلى منصب أعلى، ثم المنصب الأعلى.
…
لقد باع عفاش الكرت الأخير.. لكن هادي هو الذي اشتراه بثمن باهظ للغاية، دون أن يدري أنه الكرت الخاسر.
وها هو اليوم يُكرّر خطايا الديكتاتور، أو هو يتمثّلها في ثوب جديد، فكثير من قراراته واختياراته تشي عن زهايمر سياسي حاد، تزداد خطورته في أتون معركة سياسية وعسكرية بالغة الشراسة، بل حرب واسعة النطاق وغاشمة المآلات لتشظّيها على جهات وأبعاد وأحلاف اقليمية ودولية، عدا القوى المحلية التي لا يبدو أنها سهلة الانكسار أو قريبة العهد من حالة الاستسلام أو المهادنة.
وفي المشهد الآخر من البانوراما التي يتموضع فيها صاحب الكرت، أو الكرت نفسه، تتبدّى درامية الحالة التي يعيشها هادي وصار معها أما مثار سخرية من هذا أو مثار تعاطف من ذاك، بعد أن انقلب عليه بعض أقطاب “التحالف” الذي جاء أساساً لينصره، فإذا به يعصره!
والاَّ ماذا يعني أن تعيش المناطق “المُحرَّرة” أوضاعاً أكثر سوءاً وتخلفاً وإرباكاً مما تعيشه تلك الواقعة تحت سيطرة قوى الانقلاب؟
ثم ماذا يعني أن يستحيل الجار الحليف السند إلى محتل ومسيطر على الأرض والبشر والثروة والقوة في تلك المناطق؟
وقبل هذا وذاك، ماذا يعني أن يعجز رئيس الدولة عن الهبوط بطائرته في مطار عاصمته أو في أية بقعة من بلده؟ .. أو أن يعجز رئيس حكومته عن بسط صلاحياته السيادية على النطاق الجغرافي الواقع تحت سلطته التي بدت صورية في مقابل سلطة مُطلقة للحليف الاحتلالي؟
لقد كتب صحافي عربي كبير عن الاهانات التي يتعرَّض لها الرئيس اليمني -مراراً وتكراراً- من قبل حاكم أبوظبي (الحقيقي لا الرسمي) وأن روائح نتنة فاحت جراء تلك الاهانات في الأوساط العربية والدولية التي باتت تدري جيداً أن “الامارات” تعبث بالسيادة والسياسة وجميع المقدّرات في المناطق “المحررة” كما تريد ووقتما تريد، من دون أن يكون للرئيس حق المنح أو المنع أو الاعتراض أو حتى الغضب وربما العتب!
…
لا أعتقد أن “التحالف” سيقضي على الانقلاب، في ظل عدم ضمان بقاء قواته وسلطاته ومخابراته وعملائه وأمواله وأغلاله على سيادة الأرض وفي سياسة القصر.
وهو لا يرمي تلك المليارات -في سقطرى وحضرموت وغيرها من المناطق- إلى ملح البحر وديدان الصحراء. فما يُصرف هناك يؤشّر إلى رغبة محمومة في بقاء مستدام إلى ما شاء الله أو ما شاءت أبوظبي، وليس -في كل الأحوال- إلى ما شاء عبدربه.. أما الرهان على سياسة مغايرة للرياض بالضد من سياسة أبوظبي -في الشأن اليمني- فهو ضرب من الحماقة المطلقة!
اذن، الآن، لا يحضر في المشهد غير استفهام واحد:
– هل يبيع عبدربه الكرت الخاسر الذي اشتراه من عفاش أو ورثه عنه، بكرت رابح يصنعه بنفسه، ويعلن للجميع أنه رئيس دولة وليس خيال مآتة؟
هذا هو خياره الوحيد.. فالخيار الآخر هو أن يلقى مصير سلفه، وربما بصورة أكثر تراجيدية!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور