جاء جارنا ليوبخني بأدب بعد أن قرأ أجزاءًا من الكتاب الإلكتروني الذي نقلته لولديه، نصحني أن لا أعطيهم ثانية وأن لا أقرأ مثل تلك الكتب مرة أخرى، كان مبلغ خوفه أن نصاب بـ “صدمة نفسية”. جاء جارنا ليوبخني بأدب بعد أن قرأ أجزاءًا من الكتاب الإلكتروني الذي نقلته لولديه، نصحني أن لا أعطيهم ثانية وأن لا أقرأ مثل تلك الكتب مرة أخرى، كان مبلغ خوفه أن نصاب بـ “صدمة نفسية”.
اسم الكتاب “القوقعة” للسوري مصطفى خليفة، وهي تنتمي لأدب السجون ومتفرعة من حياة الكاتب نفسه إذ لم تكن كلها جزء من حياته، مواصفات البطل المعذب هي مواصفات مصطفى الذي درس الفنون في فرنسا وكان متحمسًا للعودة إلى بلده لخدمتها، وبسبب نكتة ألقاها في جلسة نقاش في فرنسا كتب أحد زملائه تقريرًا استخباراتيًا عليه، لتقتاده الأجهزة الأمنية فورًا إبان حافظ الأسد من المطار إلى السجن، لم يصل إلى أمه أو أبيه، وجد نفسه في السجن ولثلاثة عشرة سنة بلا تهمة غير وشاية كيدية تلمح لانتمائه للإخوان المسلمين مع أن البطل/ المؤلف مسيحي!.
التعذيب المرعب، القرف، الإعدامات، أمزجة المسجونين الإسلاميين وطباعهم، المتشدد والمعتدل، المتسامح والمهموم، مواجهة صلف السجان، ثم الزنازين الانفرادية، الوقت الطويل في العتمة، تواصل المسجونين على طريقة مورس بالنقر على الجدار لمعرفة من أُعدم ومن سيعدم ومن مات..
بعد ثلاثة عشرة سنة سيخرج من السجن وقد مات أبوه وأمه..
تدور الأحداث والتفاصيل بين هكذا أجواء، البطل أقل تعذيبًا من الآخرين، هذا ما مكنه من التلصص على البقية، ولم تكن القوقعة “يوميات متلصص” فقط، بل المتلق للعذاب بشكل مخفف نسبيًا يتلصص على الأشد عذاباً وأنكى، يريد الوقت أن يمضي، يريد أن يفعل أي شيء، يخترع جملة واحدة في ذاكرته، ثم جملة أخرى في اليوم التالي، قد تكون هذه هي الطريقة التي خرجت بها أحداث القوقعة..
جنود يلعنون الرب لإغاظة رجل صلى، يضربونه، وينصبون الرئيس إلهًا.
لم أستطع إكمال الرواية بعد نصيحة جارنا، لم أخش الصدمة، لكن أن يتلقى القارئ كل التفاصيل الموجعة مرة واحدة أشد من أن يتلقى الوجع نفسه..
تذكرت الرواية بعد أن سألتني إحداهن عن أدب السجون، وعن مدى قدرتي لقراءة هذا النوع من الروايات؛ وكي أظهر شجاعًا وأبدو كقارئ كبير يجذب القارئات على قرويته، تبجحت قليلًا وقلت بأني أقرأ أي شيء حتى الخاتمة، واكتشفت أني لم أكمل القوقعة حتى الآن.
الصديقة تلك، والتي تقتني الكتب الورقية، قالت بأنها صارت تخاف بعد أن قرأت “الآن.. وهنا” لعبدالرحمن منيف، قالت بأنها اقتنت مؤخرًا رواية “ويسمعون حسيسها” لأيمن العتوم واكتشفت أنها تنتمي لأدب السجون، دخلت الويكيبيديا لأقرأ عن منيف والعتوم، أظن أن فكرة ما تكونت لدي عن الكتابة الصادمة والسجن، التجربة الصاقلة للوجع تنعكس على الورق، سجن مصطفى خليفة، وسجن العتوم، وعاش منيف حبيسًا للهوية المنتزعة.
الصديقة قالت بأنها ركنت الرواية في آخر الرف لا تريدها، والحق أنها أثارت حسدي، إذ لم أتخيل طيلة سنوات الحرب بأن هناك من لا يزال يشتري الكتب الورقية، قلت لها مازحًا: تصدقي بها لي.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور