كتابات خاصة

بين الفاء والفاء

عائشة الصلاحي

من الحكمة أن تستطيع التفريق بين الطرفين.. بين الشجاعة والتهور مثلاً.. بين الكرم والإسراف.. بين المرونة والميوعة، ومثل ذلك تكمن هاوية مخيفة وقاتلة بين طرفي (الفناء والتفاني)،
يقول محمود درويش (إن الذين ماتوا قد نجوا من الحياة بأعجوبة)، حقاً فالكل في محنة كبيرة في هذا المكان الشائك المسمى حياة، رغم جمالها لكنها خطيرة وأخطر ما فيها هي تلك المتناقضات التي تتقارب وكأنها توأم صنوان فلا يكاد يفرق بينها غالبية البشر، أمور تمثل طرفي النقيض أحدها هو الجانب اليانع من الحياة والآخر هو الجانب المهلك منها..
ومن الحكمة أن تستطيع التفريق بين الطرفين.. بين الشجاعة والتهور مثلاً.. بين الكرم والإسراف.. بين المرونة والميوعة، ومثل ذلك تكمن هاوية مخيفة وقاتلة بين طرفي (الفناء والتفاني)، حين تسأل الكثير عن الفرق بينهما يمط شفتيه محتاراً، فهو لا يكاد يجد طرف لخيط واضح يتحدث عنه بشكل منطقي و متسلسل.

إنها الأمية القاتلة؛ أمية الوجدانيات والمفاهيم الحياتية الانسانية، فقد تجد أحدهم يمثل نفسه في التفاني كالشمعة وهو لا يدرك أن هذا هو بالضبط مثالُ للفناء، فالشمعة لا تحافظ على بقاءها بل تتحول إلى مكونات اخرى ومخلفات، بطريقتها هذه للاشتعال لقد اختفت وزالت كينونتها، قد يمكننا تقبل ذلك من مجرد جماد كالشمعة لكن من الانسان فالأمر غير مقبول فالأصل أن عليه الحفاظ على كينونته حتى عندما يبذل ما يريد بذله للآخرين.

فالأمر أشبه بما تفعله البذرة في باطن الأرض، إنها لا تسمح للفناء بقتلها بل تمضي للحياة قدماً بتحولها إلى شجرة تصارع للبقاء وتمد جذورها بعيداً بحثاً عن أي قطرة ماء ممكنة.

الشمعة تعطي وكذلك البذرة تعطي، لكن هناك فرق شاسع بين العطاءين؛ فالأولى أهدرت حياتها -إنْ صح التعبير- بينما الثانية حافظت على بقاءها وتمحورت إلى صور أكبر للعطاء بكونها شجرة.

وهذا بالضبط الفرق بين التفاني وبين الفناء النابع من رغبة الانسان في العطاء و تكريس نفسه لرسالة معينة أو لجهة ما.

أن تتفانى لا يعني أن تهمل كونك كائن محتاج للعناية و للحماية وللمراعاة فهذا من التطرف الأحمق الذي يقودك إلى الفناء العاجل، لا يعني اجتهادك الفائق في العمل أن لا تراعي وسائل السلامة لصحتك، لا يعني حبك لشريك حياتك وخدمتك له أن تغفل عن رعاية هواياتك وعلاقاتك الشخصية، رسالتك ستنمو بجهودك النبيلة لكنها لن تستفيد حين ترمي بنفسك للتهلكة دون حذر أو حرص، وأولادك لن يتذكروك كأب جيد حين تحطم نفسك بين الهموم والضغوط دون أن تلتفت قليلاً إلى تثقيف نفسك وتجديد عاداتك.

هل حقا تعتنق نعمة الحياة وممتن لكونك معافى وموجود؟

هذا هو السؤال الجوهري الذي عليك أن تطرحه لنفسك كلما انجرفت وراء تحقيق هدف معين.. فما الفائدة من تحقيق ما قد تحققه -مهما كان- حين تنازع آخر أنفاسك فوق فراش المرض أو على طريق الموت الحقيقي أو المعنوي …؟؟!!

سمك الرئة يعيش في المتوسط مائة عام، رقم عظيم بالنسبة لسمكة صغيرة الحجم تعيش في جنوب افريقيا وأمريكا واستراليا، مائة عام تدل بطريقة عميقة إلى قدرات فريدة لدى هذه الأسماك لمواجهة الحياة وعواملها القاسية، فالحياة مكان خطير كما سبق واتفقنا، إنها بكل تأكيد قد عانت من خطوب ومصائب متعددة واسوءها خطر الموت اختناقاً عند جفاف الأنهار العذبة التي تعيش فيها، ففي جنوب افريقيا تضرب موجات من الجفاف القاسي لمدة تتجاوز عشرة أعوام فكيف لسمكة مسكينة أن تواجه جفاف النهر الذي تعيش فيه..

إنها بكل بساطة تقوم بقياس خطورة الوضع وحين توقن بالهلاك تبتلع ما تبقى حولها من الطمي المبلل بالماء، وبهذا تٌكون من الداخل سدادة مبللة على خياشيمها ثم تسلك طريقها إلى جحر رطب في قاع النهر الذي يحتضر، في الجحر تلتف حول نفسها وتفرز سائل هلامي يكون كيس هوائي حولها ويحولها إلى حويصلة، ثم تدخل في حالة من وقف التشغيل أو التعليق المفتوح المدة..

ولسنين طويلة تظل بتلك الحالة تنتظر بأمل وصبر أن تتحسن الأمور فهي موقنة أن الحياة تتغير، وأن الأحوال السيئة جاءت لترحل و لم تأتي لتبقى فلا شيء يبقى في الحياة على حاله، هي موقنة بذلك لذا فهي تحافظ على بقائها لتنجو و تكمل مسارها بالحياة.. لا تقامر ولا تؤجل ولا تتكاسل بل تقرر وتضحي في حدود الممكن لأجل الحياة الغالية.

وبالفعل تهطل الأمطار، ليس مهم انها تهطل بعد 15 سنة بل المهم انها هطلت، وحين تتأكد السمكة أن هذا البلل هو بالفعل مطر ومطر غزير كافي لتكوين سيول وأنهار من جديد، فهي توقف حالة التعليق وتلفظ السدادة الطينية وتخرج من حيثما وضعتها الظروف. من الجدران أو من الأرض.. تدفع نفسها بانسيابية بكل ما تبقى لها من قوة وتسيل بهدوء مع سيل الماء لتعيش من جديد في النهر الجديد الذي للتو تمت ولادته بالغيث المنهمر.

عليك أن تراعي نفسك وحواسك وجسدك بهكذا حرص وصبر، أن تبتعد عن كل تلف قد يجلب الفناء لك فما فائدة علاقة معينة مهما كانت متعتها عندما تصيبك بالاستنزاف أو تجلب السمعة السيئة والخيارات المشؤومة لمستقبلك؟؟!!

لماذا تصمم على تسجيل هدف ما أو منجز، ما بينما ذلك قد يؤدي بك للموت أو المرض أو الإعاقة؟!

قد تحتج بأن المخاطرة جزء من أي مجد ونجاح وهذا شيء صحيح، لكن هناك فرق بين المغامرة وبين المقامرة، فالأخيرة تعني أن خسائرك أكثر بالتأكيد لأنك أهملت الحسابات المتأنية وضمانات السلامة قدر الامكان فلا فرص أخرى أمامك للاستمرار غالباً..

انظر للتاريخ وللأمم وأخبرني أين الدول التي قامرت وأين الشعوب التي تهورت؟ لم تعد موجودة لتكمل مشوار رعاية أجيال قادمة منها في هذا العالم ففي النهاية يمكنك أن تخسر جولة لتكسب المعركة في الختام.

فكر بالأمر جيداً ستجده جديراً بأن تأخذه بالحسبان، فحياتك تستحق أكثر مما تعتقد.

المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.

*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى