كانت مذبحة 13 يناير 1986 هي الضربة القاضية أو الطعنة النجلاء في جسد اليسار اليمني
كانت مذبحة 13 يناير 1986 هي الضربة القاضية أو الطعنة النجلاء في جسد اليسار اليمني، كتجربة سياسية عريقة في النضال وفي الحكم. وهذه الأطروحة ليست فرضية نظرية بل حقيقة واقعة يتفق على صحتها أطراف هذه التجربة وأصدقاؤها وأعداؤها على السواء.
ثم كانت حرب صيف 1994 المسمار الأخير في نعش هذا اليسار، حكماً وحلماً. منذها لم تقم قائمة للحزب الاشتراكي اليمني الذي يُمثّل هذا اليسار، تاريخياً ووجودياً. واذْ كان يحاول الاستنهاض ولو على أعضاء ممزقة وأنفاس متقطّعة، أُغتيل جارالله عمر، ثم غادر ياسين نعمان البيت.. وبتلك المشاهد الدرامية أكتملت تراجيديا هذا الحزب وذاك اليسار.
وقد انهالت على هذا الحزب -منذ حرب 94 بالذات- موجة عاتية من الطعنات واللعنات، من داخله وخارجه معاً.. غير أنه من المثير للدهشة والريبة والاستهجان ليست الحملة الشعواء التي تعرّض لها هذا الحزب وذاك اليسار -كتجربة وكيان- بغرض شيطنته بالمطلق وطمس تاريخه وتشويه تراثه والتنكيل بمخزونه البشري والمؤسسي والفكري والسياسي، فهذا مشهد يُلامس المنطق الطارىء الذي فرضته الأحداث عليه ويُفهَم بأكثر من لغة في القاموس الذي حرّره وأصدره المطبخ السياسي والدعائي الذي أسّسه علي عبدالله صالح ضمن مُخرَجات تلك الحرب الكارثية..
ولكن المدهش والمُريب والمُستهجَن حقاً هو موقف رموزه -وحتى موقف أصدقائه وشركائه العرب بالذات- مما ظل يحدث على مرأى ومسمع منهم.. بل أن الطامة الكبرى أن الموقف الذي أنحصر عند بعض هؤلاء وأولئك في الصمت المطبق والانزواء المُخزي، قد تعدَّاه لدى البعض الآخر إلى الاسهام الفعلي مع أصحاب تلك الحملة في رسم خطوطها ونقش عناوينها وتنفيذ فصولها، حتى أن بعضهم كان مُعيناً مباشراً لعلي عبدالله صالح في ضرب هذا الحزب وتلك التجربة في مقتل.. أما من حاول الثبات والتماسك والتصدي والتحدي، في مواجهة هذه الحملة -المؤامرة، فقد تعرّض إما للقهر وإما للاهمال وإما لما هو بين هذا وذاك، كما هو مثال المناضل النزيه أنيس حسن يحيى!
.
.
في معمعة هذا المشهد، ولتدارك ما اعتور من صميم الموقف وحميم المبادرة، أنبرى صديق الحزب وأحد مستشاريه البارزين الصديق الرفيق الدكتور فواز طرابلسي لابداء شهادته للتاريخ بهذا الصدد، في الوقت الذي أنكفأ قادة الحزب ورموز اليسار -اليمني والعربي والعنفلوصي- على أنفسهم في قوقعة التجاهُل والتخلّي عن هذه الشهادة ولو من باب اسقاط الواجب!
قبل أكثر من عامين سمعتُ بتوافر النيَّة لدى فواز لتقديم شهادته في موضوعة الحزب الاشتراكي واليسار اليمني في النضال والحكم من واقع معايشته للتجربة عن قُرب شديد.. بعدها عرفتُ أن الكاتبة والناشطة بشرى المقطري حاورت الرجل مُطوّلاً لتحقيق هذه الشهادة. وقد صدر جهدهما المشترك في كتاب بعنوان “جنوب اليمن في حكم اليسار” أواخر العام 2015 عن دار رياض الريّس. ومنذ صدوره وأنا أتحرّق شوقاً لقراءته، غير أن هذه الأمنية لم تتحقق لي الاَّ مؤخراً ومتأخراً. وقد قرأته سريعاً، ثم أعدتُ الكَرَّة مُتأنّياً ومُتفحّصاً.
هي شهادة تاريخية عن تجربة تاريخية، حَكَمَتْها وتحكَّمت بها ظروف الزمان والمكان والحدث على نحوٍ بالغ الفرادة مثلما هو شائك التماهي. وتستمد شهادة فواز أهميتها من كونها صادرة عن شخصية لم تكن أحد الشاهدين على هذه التجربة أو أحد المراقبين الدائبين والدائمين لها، انما أحد المساهمين -بقدر غير محدود- في صنع القرار في مؤسساتها السياسية والسيادية، بما في الكلمة من معنى.
.
.
إن تقييم أية تجربة أو ظاهرة انسانية، في السياسة أو سواها من مجالات النشاط الاجتماعي العام، لن يستقيم دون التحلّي بالموضوعية المنهاجية والأمانة الأدبية وانعدام الغرض الذاتي للنيل منها ومن شخوصها ومؤسساتها ومختلف تجلّياتها وانزياحاتها بكل أشكالها واتجاهاتها..
ولهذا سقطت مصداقية عديد من من محاولات التقييم لهذه التجربة أو تلك الظاهرة بعد أن كانت -أو كادت أن تكون- سبباً في تشويه حقائق التاريخ والاساءة إلى عقل المتلقّي بمحاولة تزييف وعيه بالضدّ من جوهر هذه الحقائق.. وهي جريمة فادحة بامتياز.. فأقذر الجرائم في التاريخ هي تلك التي استهدفت الوعي بحقائق التاريخ.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.