فجأة قطع الصمت رنين هاتف ينذر بوصول رسالة لولا الصمت ما التقطتها الأسماع.
في حجرة الانتظار عادة يسود الصمت؛ فالغرباء المصابون بالمرض هم أقل الناس رغبة في الحديث.
الممرض الذي رتب أرقام الدخول ساعد في نشوب الصمت؛ فالجميع يعلم دوره ولا حاجة لضجيج الاحتجاج والاعتراض.
وكأسلوب حياة أقرب للإدمان حلت فيه أجهزة الهاتف محل الروابط الاجتماعية فأن أغلب نزلاء القاعة كانوا يطالعون هواتفهم.
وكالبقية كنت أقرأ كتابا اليكترونياً في هاتفي واسترق النظر للآخرين حولي محاولاً طرد الملل؛ فالتأمل في ملامح وسمات الوجوه مدعاة للتسلية وانعاش للتفكير.
كان الشاب أمامي مباشرة هو رقم واحد من حيث الدور؛ إلا أنه أكثر الحاضرين تبرماً وقلقاً وإظهاراً للعصبية؛ قد وضع هاتفه على حجره في محاولة للتهرب من النظرة القلقة إليه؛ حاول الانشغال بالتطلع للسقف حيناً ونثر مقدمة رأسه حينا آخر ليعاود اختلاس النظر للهاتف بطرف عينه كأنه لا يبالي به.
بدا متوتر الحركات رغم محاولاته اصطناع الهدوء واللامبالاة؛ يبدو أنه ينتظر اتصالاً مهما كما تشي عصبيته ونظراته للهاتف.
الرجل الذي بجواره كان منهمكاً على هاتفه قد كساه الهدوء والوجوم وعزله في عالم آخر.
فجأة قطع الصمت رنين هاتف ينذر بوصول رسالة لولا الصمت ما التقطتها الأسماع.
انتفض رقم واحد بلهفة وهو يقبض هاتفه بكلتا يديه وقد أشرق وجهه.
ما لبث أن سقطت ملامحه على الفور حين اكتشف أن هاتفه صامت منطفئ وإنما النداء من هاتف جاره الآخر.
علاه الوجوم كمن تلقى صفعة وعم الصمت القاعة أكثر.
خلال دقائق، عاد صوت الرنين يرفع أبصار الجميع وعاد رقم واحد ينتفض لسماع الرنين ليطالع هاتفه الصامت بذهول؛ ويحمر وجهه بانكسار ويلجأ للنظر لفراغ الحجرة في محاولة لكتم احباطه فلا يتجاوز صدره.
يمر الوقت بطيئا يقطعه ذات الصوت للمرة الثالثة لتهبط نظرات رقم واحد بلهفة مؤلمة إلى شاشة هاتفه الصامتة بإصرار.
لم يتمالك أعصابه هذه المرة فالتفت إلى الرجل جواره صارخا بغيظ:
_ يا أخي احترم نفسك.
امتقع وجه الرجل الثاني وهب واقفا بغضب أشد هاتفا:
_ من تقصد؟ هل تعنيني يا هذا؟
أدرك رقم واحد حماقته حين طالعته ملامح الثاني المحتقنة فقال بارتباك:
_ ازعجتنا بصوت هاتفك.
ضحك الرجل الثاني بسخرية وهو يقول:
_هل وجدتني أرفع صوت هاتفي بأغنية صاخبة أو مكالمة مذاعة على الهواء؟ لم أسمع قبلا أحد يحتج على رنين هاتف لوصول رسالة. ما هي مشكلتك يا هذا؟
قال الأول بعناد: مشكلتي هو صوت هاتفك المزعج.
حينها فقط وقفت بهدوء منهيا الخلاف والجدال:
_حصل خير يا جماعة كلنا متوترين من ملل الانتظار.
وكأنما كانا بانتظار إشارة لإنهاء الخلاف فجلس كلاهما في مقعده صامتا دون اعتذار.
عاد الصمت لدقائق أخرى قبل أن تعاود رنة الهاتف في عناد مؤذنة بوصول رسالة لذات الهاتف للمرة الرابعة.
فما كان من الأول إلا أن انتفض غاضباً وترك مقعده والعيادة وغادر.
وحينها فقط أطل الممرض يدعو رقم واحد لمقابلة الطبيب.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.