وقفت تنتظر البائع المتجول حتى يعد لها ما طلبت من فاكهة الرمان وعيناها تجول في الشارع الخالي من الزحام المفترض؛ فقد اعتادت الخروج باكراً لجولة صباحية وشراء ما تحتاج إليه من خضار وفاكهة قبل ازدحام الشارع.
وقفت تنتظر البائع المتجول حتى يعد لها ما طلبت من فاكهة الرمان وعيناها تجول في الشارع الخالي من الزحام المفترض؛ فقد اعتادت الخروج باكراً لجولة صباحية وشراء ما تحتاج إليه من خضار وفاكهة قبل ازدحام الشارع.
كانت تتأمل الأكياس البلاستيكية الفارغة وهي تتكوم فوق بعضها بفعل الريح هروباً من برد ديسمبر قبل أن تصطدم نظراتها به..
عارياً إلا من مِزق ثوب يكشف ولا يستر؛ كان يحاول تطويع قطعة كرتون قاسية علها تعتنق جسده البارد وتبعث فيه الدفء؛ عبثاً يحاول أن يرتديها أو يلتحفها فتظل على صلابتها كقطعة كرتون صلبتها الأوساخ.
صدمها المشهد.. هذا الإنسان فاقد لعقله.. لكنها فقدت قدرتها على مساعدته.
منذ وقت طويل لم تعد تفكر بمساعدة محتاج أو تكسو عارياً كهذا.. ولن تفعل.
ستبكي حزنا لمشهد أثر البرد على حركاته المضطربة وستتذكر ذلك اليوم المروع والدامي الذي كانت سببا في مجزرة ذهب ضحيتها ثلاثة رجال..
كانت قد حملت كيسين كبيرين فيهما ملابس رجالية لم يعد زوجها يستخدمها؛ ملابس كثيرة تكومت في خزانات الثياب في الوقت الذي لا يجد الكثير ما يستر أجسادهم من برد أو شمس.
يومها استقلت سيارة أجرة فقد كان الكيسين ثقيلا الحمل وذهبت إلى ذلك الرصيف الذي دائما ما تشاهد فيه العمال جلوساً انتظارا لطالبين العمل؛ كلما مرت من أمام تجمعهم البشري آلمها كثيرا رؤية الفقر جليّاً في ثيابهم ونظراتهم وملامح وجوههم التي انهكها العوز والوضع.
وقفت بعيداً تفكر كيف تناولهم أكياس الثياب وأخيراً اهتدى تفكيرها لطريقة لا تسبب إحراجا لها أو حرجا لهم.
كانت قد لاحظت وجود أحدهم يبدوا كأنه مسؤولاً عنهم بطريقة ما فقد كان أكبرهم سناً.
طلبت من أحد الأولاد المارين أن يدعوه لأجابتها وأشارت إليه فأسرع الولد وأخبر الرجل أن سيدة تقف في ركن الشارع تدعوه لأمر ما.
أقبل الرجل المسن إليها والدهشة ظاهرة على وجهه فلم يسبق أن أتت امرأة تبحث عن عمال بنفسها؛ وصل إليها وقد زادت دهشته وهو يرى الكيسين الكبيرين أمامها.
شرحت له بسرعة عن رغبتها أن يتفضل عليها بتوزيع الملابس على العمال بحيث يأخذ كل شخص ما يناسب حجمه.
راجية منه ألا يشير لوجودها فهي ستذهب لتوها.
وأكملت حديثها وتحركت مبتعدة والعامل المسن يلاحقها بالشكر والدعاء على صنيعها.
لا تدري لماذا فكرت أن تملأ عينيها بمشهد السعادة البسيطة في عيون وحركات العمال وهم يتقاسمون تلك الثياب الثمينة والجميلة.
وقفت بعيدا وهي تراهم يتحلقون حول الكيسين بلهفة وكل واحد يتأمل ما صادفت يداه.
وحتى الآن لا تفهم كيف أنتهي الأمر بتلك الصورة المروعة.
حين جذب أحد العمال قطعة ملابس من يد رفيقه عنوة كأنها أعجبته وأرادها لنفسه واستمر الجذب وارتفع الصراخ وانهالت صفعة في وجه أحدهم؛ ثم تلك المطرقة التي استقرت في رأس الآخر؛ وأخير تدخل ثالث حين فقد صوابه ضرباً بأداة معدنية من أدوات العمال على رأس القاتل الأول..
وحتى الآن لم تخبر أحداً أنها كانت سبباً في تلك المجزرة..
وإن قتيلين دفنا ذلك اليوم؛ والثالث ينتظر حكما بالإعدام..
ولكنها في طريق العودة إلى منزلها كانت ذاهلة تحمل أثقالا من الحزن والندم لا تقارن بثقل أكياس الثياب في طريق ذهابها.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.