صحة العرب بين شقّي الرحى: فقر كلاسيكي وصراعات حديثة
بلغة الأرقام، لا تخصص غالبية البلدان العربية أكثر من 7.8 في المئة من مجمل الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية يمن مونيتور/الحياة
لم يعد مشهد آلاف المرضى المصطفين في المستشفيات الحكومية، أو الأب المسنّ الذي يحمل ابنه الشاب على ظهره والأبناء الذين يحملون الأم المريضة مشاركة، أو الأهل والأقارب المفترشين الأرصفة في محيط المستشفيات وغيرها من المشاهد الإنسانية- اللاإنسانية في آن تستوقف كثيراً. فقد أصبحت أموراً شبه عادية في أحوال صحية غير عادية للجميع.
«الصحة للجميع» كان شعار يوم الصحة العالمي قبل أيام في مقر المكتب الإقليمي لشرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية في القاهرة. وفي إقليم يمثل الإنفاق الشخصي المباشر 40 في المئة من الإنفاق الصحي، يأتي الحديث عن «التغطية الصحية الشاملة للجميع وفي كل مكان» وكأنه حلم بعيد المنال. فغالبية الأشخاص تضرراً من افتقاد الرعاية الصحية المعقولة هم أصحاب الدخول المنخفضة والمحرومون من الحماية الاجتماعية.
يقول مدير منظمة الصحة العالمية الإقليمي بالإنابة الدكتور جواد المحجور أن حوالى 55.5 مليون شخص في أنحاء شرق المتوسط (من ضمنها غالبية البلدان العربية) يعانون ضائقة مالية نتيجة لما ينفقونه من مالهم الخاص على الصحة. وأضاف أن هذه الكلفة تؤدّي إلى وقوع حوالى 7.7 مليون شخص في براثن الفقر، مشيراً إلى أن المدفوعات الشخصية على الخدمات الصحية تتجاوز 70 في المئة من إجمالي الإنفاق الوطني على الصحة في بعض بلدان الإقليم.
وبلغة الأرقام، لا تخصص غالبية البلدان العربية أكثر من 7.8 في المئة من مجمل الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية، علماً أن الإنفاق العالمي يبلغ نحو 5800 بليون دولار، نصيب منطقة الشرق الأوسط منه 92 بليوناً فقط. بمعنى آخر، فإن إنفاق المنطقة على الصحة يعادل 1.6 في المئة على رغم أن سكانها يشكلون 8 في المئة من سكان الأرض.
الحال على الأرض العربية تشير إلى شقين كارثيين: الأول هو وقوع المواطنين في براثن الفقر بسبب الإنفاق على الصحة، إذ يضطر ملايين إلى سداد كلفة الرعاية الصحية نظراً لغياب الرعاية الحكومية، ما يؤثر سلباً على حياة ملايين الأشخاص والمجتمعات، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل. والثاني هو وقوع بلدان عدة بين مطرقة هذه الأوضاع الصحية السيئة وسندان الأوضاع الأمنية الكارثية من اشتعال ثورات وحروب داخلية، وما نجم عنها من موجات نزوح ولجوء وتدمير للبنى التحتية.
وبين انتشار للكوليرا في اليمن وتدمير البنى التحتية للمستشفيات في أنحاء كثيرة من سورية وتردّي الأوضاع الصحية في الصومال وغزة، ناهيك عن الآثار النفسية الكبيرة للمواطنين الذين يعيشون في أماكن الصراع على مدى سنوات طويلة، تتعالى دعوات بين الحين والآخر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقبل أسابيع وضمن الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الـ49 لمجلس وزراء الصحة العرب، طالب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، بتكثيف الجهود العربية وتقديم الدعم لتحسين الأحوال الصحية والتخفيف من الآثار الناجمة عن الصراعات الداخلية والنزاعات المسلحة في بلدان مثل سورية واليمن والصومال، وكذلك للتخفيف عن كاهل البلدان المضيفة للنازحين.
النازحون واللاجئون هم الفئات السكانية الأضعف في الحلقة الضعيفة أصلاً. لذا، خصص مكتب إقليم شرق المتوسط «إمرو» حلقة ضمن فعاليات اليوم العالمي للصحة لمناقشة أوضاع النازحين واللاجئين في هذه المنطقة، حيث يتجاوز عدد النازحين الـ30 مليوناً، وقد أجبروا جميعاً على الهروب من بيوتهم بحثاً عن السلامة بمنأى عن الصراع والعنف، لكنهم وقعوا في براثن نقص الخدمات المقدّمة ومنها الرعاية الصحية.
مدير إدارة تطوير النظم الصحية في «إمرو» الدكتور ظفار ميرزا يلفت إلى أن «التغطية الصحية الشاملة لها أهمية خاصة للأشخاص الذين يعيشون في بلدان تعاني من حالات طوارئ حادة وطويلة الأمد، وهذا هو وضع إقليمنا للأسف»، مضيفاً أن نصف السكان النازحين داخلياً في العالم يعيشون في بلدان الإقليم، وأكثر من 60 في المئة من اللاجئين والمهاجرين في العالم من الإقليم، لذا يتم التركيز على التغطية الصحية الشاملة لهذه الفئة. لاجئين والمهاجرين.
وإذا كانت أوضاع اللاجئين والنازحين تُعد موقتة مهما طال الزمن، فإن المواطنين العاديين في المنطقة يعانون الأمريَن صحياً. وعلى رغم أن المنظمة العالمية تأسست على المبدأ الذي يقضي بحق كل فرد في أن يتمتَّع بأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة، إلا أن حوالى 100 مليون شخص واقعون في براثن الفقر المدقع ومجبرون على العيش بدخل 1.90 دولار فقط أو أقل في اليوم، لأنهم يضطرون لدفع تكاليف الخدمات الصحية من جيوبهم الخاصة، في غياب التغطية الصحية الشاملة.
الدكتور المحجور يقول إن التغطية الصحية الشاملة حق أساس من حقوق الإنسان، وأن ضمان الحق في الصحة للجميع والتغطية الصحية الشاملة وجهان لعملة واحدة، والدافع لعمل المنظمة منذ إنشائها. ويذكر أن التغطية الصحية الشاملة توفّر مزيداً من الفرص أمام الناس للعمل وكسب العيش، كما تزيد فرص الأطفال في بلوغ قدراتهم الدراسية الكاملة، وهي الأساس الذي تقوم عليه التنمية الاقتصادية طويلة الأمد.
والمقصود بالتغطية الصحية الشاملة هو تمكن الأشخاص والمجتمعات من الحصول على خدمات الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها من دون أن يعانوا ضائقة مالية. ويستطيع كل شخص أن يحصل من خلال هذه الميزة على الخدمات التي تعالج أهم أسباب المرض والوفاة، مع ضمان أن تكون عالية الجودة من أجل تحسين صحة متلقيها.
ولفت الدكتور المحجور إلى أن التغطية الصحية الشاملة تعني أيضاً ضمان الحصول على الرعاية الأساسية عالية الجودة وتوفير الحماية المالية، ما يُحسِّن صحة الناس ويزيد متوسّط عمرهم المتوقَّع، ويحمي البلدان كذلك من الأوبئة، ويُقلِّص رقعة الفقر ويحدّ من خطر الجوع، ويخلق فرصاً للعمل، ويحفّز النمو الاقتصادي، ويعزز المساواة بين الجنسين.
عربياً، يتكفّل المواطنون في البلدان منخفضة الدخل بدفع 60 في المئة من الإنفاق الصحي من أموالهم الخاصة، وقد تصل النسبة إلى 80 في المئة في بعض البلدان. ويعد هذا الإنفاق سبباً رئيساً لدفع الأسر العربية إلى هاوية الفقر.
الكلمة التي وجهها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ذكّرت بالهدف الأصلي لإنشاء منظمة الصحة العالمية، ألا وهو «التمتّع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه، هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان». كما حملت إشارات سريعة لما تحقق على مدار عمر المنظمة البالغ 70 سنة، حيث زيادة متوسّط العمر المتوقع على عالمياً بنحو 23 سنة، واختفاء الجدري وينتظر أن يلحق به شلل الأطفال، ونجاح العالم في أن يعيش ملايين الأطفال إلى أن يحتفلون بعامهم الخامس. لكنه عاد وأشار إلى أنه على رغم ذلك، فإن ملايين الناس محرومون من الخدمات الصحية الحيوية في أماكن عدة في العالم، داعياً إلى الالتزام بكفالة حصول الجميع على الخدمات الصحية اللازمة.
وتبدو الدعوة في حاجة إلى دعوتين في المنطقة العربية الرازحة تحت ضغطين صحيين هائلين: الفقر الكلاسيكي المزمن والحروب والصراعات الحديثة.