إناء فارغ يتدلى من يد غصن في طريقه إلى كوخ جارتهم العجوز التي توزع الحليب على أهل القرية نص
رويدا، تبدأ خيوط الشمس في التمدد على أجساد الأخوة الأربعة، ماسحة أرجلهم التي تسخنها فيحرّكونها. كانوا مستلقين فوق سرير سعفي عريض، مرتفع ذراعين عن الأرض المترعة التي تهاطلت عليها السواقي طوال الليل ففرشتها بغلالة مائية تسمق منها شجرة ليمون هائلة الرأس كثيفة الأوراق تظلل هجعة النائمين. وأعشاب صغيرة تظهر رؤوسها بالكاد، وأخرى غارقة أو منكمشة بفعل ثقل الضفادع التي تدوسها وهي تقفز من مكان إلى آخر، يسبقها نقيق ينتشر في لحن ثابت ممزوج بصياح الجداجد، الذي يخترق صمت الغبش.
خيوط الشمس الأولى تكمل طريقها البطيء انطلاقا من الأرجل الحافية، ثم ماسحة الوجوه التي بدأت تتفصد بالعرق. تفتح فاطمة عينيها. تتأمل الأفق قليلا، الدجاجات التي كانت نائمة طوال الليل فوق الغصون شقت طريقها هابطة ومنتشرة في الأرض، عدا الديكة، التي شرعت تكمل مهمتها في الصياح، بالتناوب.
حرّكت فاطمه مخدتها برفق على الأجساد الصغيرة وهي تهتف:
-نهضوا، نهضوا. غصن، بكيل، هلالة، قوموا. قوموا.
إناء فارغ يتدلى من يد غصن في طريقه إلى كوخ جارتهم العجوز التي توزع الحليب على أهل القرية. بيت حمام يلاصق ذلك الكوخ السعفي، فيقف غصن سارحاً أمامه إلى أن ينبّهه صراخ الأطفال الراكضين جهة الكوخ ، ومن أياديهم تتدلى أوعية فارغة، فيتحفز للركض معهم.
تصفّ المرأة الأوعية تحت ضروع شياهها المنشغلة بالمضغ وتبدأ في الحلب. الأطفال يتناوبون في فوضى، والعجوز منشغلة وصامتة. وحده صدرها يرسل أنينا ضعيفا وهي تعصر، بجهد بيّن، ضروع الشياه، واحدا إثر الآخر. ثم يرفع غصن وعاءه الذي تحفه رغوة الحليب. يحرك طرف لسانه خارج فمه ويبلل شفتيه الجافتين وهو يحضن الوعاء متقدما جهة البيت، ويتفرق الأطفال، كلٌّ إلى بيت أهله. .وكان للمرأة حكاية حدثت لها في إفريقيا، يسهل سماعها ويصعب تصديقها، يمتزج في سردها الخيال بالخيال:
في شبابها كانت تعيش على مشارف غابة القرود. و لم يكن قريباً من مسكنهما سوى بيت وحيد يبعد مسافة ساعتين على ظهر حمار. وكان زوجها، الذي يعمل حطاباً، كثيراً ما يتركها في البيت ويختفي للعمل ثم لبيع ما جناه في أسواق القرى المأهولة، قبل أن يؤوب إليها محمَّلاً بالمؤن.
وذات يوم، ترك الحطاب زوجته وهي حامل، في فترة انتظار الطلق. لم يكن يظن أنه سيتأخر قرابة عشرين يوماً. لدغته أفعى وظل يجر رجله في الغابة إلى أن وصل إلى مشارف أحد الأسواق، فمكث لدى أحد معارفه هناك يصارع السهر والحمى أياماً بلياليها. وفي تلك الأثناء كانت المرأة تجر ما في بطنها جهة بيت الجيران البعيد حين باغتها الطلق على ظهر حمار، فارتكنت إلى جذع شجرة بعد أن ربطت حمارها، وهي تصارع وحيدة خروج الوليد منساباً من بين أحشائها، فأغمي عليها من شدة الألم.
كان يغزو غابةَ القرود أسد يقدح الوعيد من عينيه، وقد درجت القرود على إعطائه أحد أبنائها بمجرد ما يظهر مزمجراً. كانت تفعل ذلك خوفاً من سطوته وخوفاً من قتله إياها جميعاً دون رحمة، فتقدّم له في كل مرة يغزو الغابة آخر الرُّضَّع قرباناً لبقاء حياتها سالمة. كان آخر ضحاياه ابنٌ لتلك القردة الأم التي ثكلت، قبل مدة قصيرة في وحيدها الذي قدمته قربانا للأسد. وحين كانت تذرع الغابة حزينة، شاردة الذهن، وجدت الأم نائمة وبجانبها رضيع يطلق صراخاً.
أخذت القردة الأم الرضيع وحملته إلى صدرها وأرضعته، فأشرقت عيناها بالأمل والحياة، وتقدمت فرِحة صوب الغابة. وصعدت شجرة عالية حيث كانت تسكن وحيدة.
استفاقت الأم من إغماءتها وبحثت عن رضيعها فلم تجده. بكت كثيراً وحزنت، ثم استسلمت لقدَرها، معتقدة أن رضيعها أنقذ حياتها، وقد أكله حيوان مفترس وهي مغمى عليها. ولكن قلبها ما فتئ، في كل مرة، يخفق بأمل غامض.
في الغابة كان الرضيع يكبر بين يدي أمه الجديدة ويتعلم حركاتها وإيماءاتها. كان أيضا ينزل من تلك الشجرة ويشرع في اللعب مع صغار القرود. في البداية، استنكرت القرود وجود كائن غريب لا يشبهها وأخذت تصيح، مالئة الغابة بالضجيج. ولكنها ما لبثت أن تفهّمت وضع الأم التي قدّمت، في ما مضى، رضيعها للأسد قرباناً لإنقاذ حياة جميع قردة الغابة.
كبر الصبي في تلك الغابة. ولأن لديه عقلاً لا يستكين فقد اهتمّ بأمر القرود حين شاهد عدة مرات من أعلى شجرته الأسد وهو يجر أحد الصغار بعيداً إلى قلب الغابة أمام النظرات العاجزة للجميع.
صارت للصبي قوة وصلابة وهو يأكل مما تمنحه الطبيعة ويتسلق الأغصان العالية ويقفز خفيفا ويصرخ فرحاً متحدِّياً بأعلى صوته. لكن فرحه لم يُنسِه التفكير في غزوات الأسد، التي لم تقابل بأدنى مقاومة.
ذات يوم، باح الصبي لأمه القردة بأنه ينوي، بمفرده، أن يقتل الأسد. كانت الأم حتى تلك اللحظة تعتبر الأمر جزءاً من طبيعة الحياة، لذلك ارتسمت على وجهها تعابير سخط واستغراب إمكانية تغيير شيء مقدّر في حياة القرَدة إلى الأبد. ولكن الصبي أخبرها بأنه قد وضع خطة محكمة لا تحتاج منه سوى إلى دقائق قليلة ليختفي من حياة القرَدة هذا الرعب الجاثم على قلوبها كل هذه المدة.
حفر الصبي – بمساعدة القردة – حفرة واسعة وعميقة تطلّ على شجرة مربوط فيها حبل، وقد ركز في عمق الحفرة أشواكاً غليظة مسنونة الحواف، ثم غطى الحفرة بورق الموز الذي ينزلق منساباً إلى قاعها بمجرّد ما يطأه جسم ثقيل.
تقدم الصبي إلى أطراف الغابة منتظراً الأسد. مكث أياماً هناك. وكانت أمه ومجموعة من القرود تأتيه بالطعام والشراب. وحين سمع زئير الأسد قادماً، هبَّ من مكانه وهو يشير إلى الأسد. وثب الأسد مسرعاً ناحيته، فهرب الصبي راكضاً. وحين وصل إلى حيث تلك الحفرة الواسعة قفز متسلقاً الحبل الذي يرفرف على حوافها، والذي أوصله إلى قلب الشجرة. ومن هناك استطاع أن يرى الأسد وهو يغوص عميقاً في بئر الأشواك.
وثبت قرود الغابة وفي يدها الأغصان الغليظة والحجارة وأخذت تقذف بها الأسد وهو يصارع الموت إلى أن أجهزت عليه ودفنته مكانه.
حُمل الصبي على أكتاف القردة وعبرت به الغابة كلها وهي تصرخ انتشاءً. الأمهات قبّلته، وخاصة الحوامل منها والمرضعات.
رأت أمه، التي افتخرت به، في ليلة الانتصار تلك ما يشبه وميض الحزن في عينيه، فسألته عن سبب حزنه وهو الذي حقق للتو انتصاراً وهزم الأسد.
-أشعر بأنني لست منكم. صحيح أنني تربيت بينكم وعشت ولعبت وفكرت، ولكن كل شيء حولي لا يمتّ لي بصلة، أشعر بأني مخلوق مختلف، مختلف يا أمي.. أرجوك وضّحي لي السبب، لماذا أنا مختلف هكذا؟
صمتت الأم ساعة وأطرقت برأسها، ثم سردت للصبي التفاصيل الغائبة عن حياته.
حين اقترب الصبي من بيت والديه رأى، للمرة الأولى، مسكنا بهذا الحجم فوق الأرض. كانت مخيلته المحلقة لا تحمل في انطباعها سوى تلك المساكن التي ترتفع في أعالي الأشجار، لذلك ضحك وهو يتقدم بصحبة أمه القرْدة:
-هل كان والداي ديداناً عملاقة تسكن في شرانق؟
تركت القردة ربيبها يتقدم وحيداً جهة البيت، وظلت تراقبه من بعيد من خلف الأشجار.
طرق الصبي الباب وجبينه يتعرّق حيرة. تساؤلات كثيرة كانت تمور في رأسه عن شكل أمه الحقيقية وكيف تراها ستكون..
لم تفتح البابَ أمه، بل ثلاثة أطفال، أخذوا يصرخون وينادون أمهم، متراجعين إلى عمق بيتهم. هرعت الأم متقدمة جهة الباب، وحين لمحت الصبي فزعت وأغلقت الباب بقوة في وجه الغريب.
تسمّر الصبي طويلاً أمام الباب المغلق، الذي انفتح قليلاً عن عيني الأم، ثم وجهها. كان صدرها، ذو الوجيب الهائل، يخبرها، برسائل سريعة، بأن هذا الصبي ليس سوى ابنها الغائب. وما أن سألته وأجابها بقصته حتى هجمت عليه تحضنه وتقبّله. ومن خلف الأشجار انسحبت القرْدة الأم جهة الغابة مطمئنّة والدموع تغرق عينيها.
فاطمة تخبز وحولها يتحلق أخوتها. تخلط نثارا من الطحين بالماء والملح، فتتشكل عجينة ترفعها نحو صفيحة معدن تحتها ثلاث أثاف مشتعلة بنار الخشب. تلتصق العجينة بصفيحة المعدن فتتشكل عليها طبقة خبز رقيقة. بكيل وغصن يركزان أعينهم على الصفيحة في تعجب وهي تحول ما التصق بها بسرعة إلى خبزة مكتملة ترفعها، برشاقة، وتضعها على صحن سعفي تتكوم عليه طبقات الخبز الرقيق. وهلالة تكنس الأرض بمكنسة سعفية واطئة، ثم ترسل بصرها ناحية الباب، حيث دخل الأب وألقى نظرة صامته على الأجساد الأربعة. كان عائدا من صلاة الفجر، وجهه منقبض وهو يكمل طريقه، الذي انتهى بالجلوس على حافة السرير السعفي الكبير. رفع رجليه الحافيتين عن صفحة الماء فوق صخرة جافة، ثم رفع يده اليمنى أمام صدره فتعاقب الإخوة يقبلون ظهرها. نظرت فاطمة المنشغلة إلى أبيها دون أن تكلمه. ثم قربت منه قلّة اللبن وصحن الخبز، فانكبّ الجميع يغمسون ويأكلون. نهر الوالد غصن بصرخة مدوية، فانسحب هاربا. قالت فاطمة:
-دعه يكمل فطوره يا أبي.
أجاب الأب:
-يجب أن يتأدب، إنه يسرق الخبز ويخفيه في جيبه، يظن أنني لا أراه.
ترفع هلالة صحن الفطور وتتجه ناحية النبع، فيما تركض بكيل باحثة عن أخيها.
أخرج غصن قضمة الخبز من جيبه، فتّتها ونثرها أمام قدميه. اقترب زوجان من العصافير كانا يرسلان لحنهما من بين الأغصان. تنططا بحذر، وحين اطمأنا أرسلا نداءهما في الأرجاء، ليتهاطل فريق من العصافير حول الفتات. تظهر بكيل فجأة، فيهرب السرب محلقا في فوضى. تركض هاربة وغصن يلاحقها. يدفعها فوق الزرع ويحشر رأسها بين ركبتيه. تنزلق من قبضته في انتصار وتُواصل هروبها.
كانت هلالة تراقبهما من بعيد وهي تفرك الصحون بلحاء نخل معجون بالطين. عيناها تتنقلان بين الصحون والطفلين. ترتسم ابتسامة على صفحة وجهها وهي ترفع عنقها لتراقبهما من خلال فتحات الزرع الطويلة. بكيل تصبغ وجه أخيها بالطين وهو صامت. يصبغ وجهها بدوره. يختفي الطفلان في السرير الأخضر، ثم يقتربان خفية من مجلس هلالة. كان عنقها مشرئبّا باستغراب وهي تبحث عنهما. يظهر الوجهان المصبوغان من وراء أختهما، ثم يصرخان، بصوت واحد:
-أووووووووووووووووووه!
ترمي هلالة بالصحن من يدها ثم تلاحقهما. تغرف بيدها من النبع وتملأ فمها ثم ترشهما، قبل أن تطلق ضحكا ممزوجا بالصراخ. تتوقف فجأة وتعود إلى حيث تركت صحونها.
أرجوحة مثبتة بين شجرتي مانغو وباباي؛ تتسلقها بكيل ويبدأ غصن في دفعها من ظهرها. تحلق العينان ماسحة رؤوس الأشجار الصّغيرة. يرتفع الجسد ويهوي. ثم تدفع بكيل ظهر غصن، الذي يرفع رجليه ويحني ظهره في نصف نومة وهو يهوي ويرتفع. تتركه بكيل يتأرجع وحيدا إثر نداء جاءها، فجأة، من فاطمة.
وجدت فاطمة وقد قربت إليها آلة نولها الخشبية وشرعت تغزل خيوط الصوف جالسة. بدأت بكيل في مساعدتها وهي تنتظر دورها في الحياكة بشغف. ثم تضع فاطمة آلة النول بين حضن بكيل، فتحرك أصابعها الصغيرة بحذر بين الخيوط. تندسّ الأصابع بين الخيوط الملونة. فاطمة تتدخل لتفكّ اشتباك الخيوط. وكان في تدخلها نهر ولوم وتشجيع.
يترك غصن الأرجوحة تتحرك وحيدة وراءه ويتقدم صوب كوخ العجوز. كانت تجلس مقرفصة وكأنها في انتظاره. يتأمل وجهها وهو يقترب. وجه دافيء تنام على تفاصيله الظلال. تعوم فيه نظرات الطفل كما يعوم ظل شجرة في بركة. تنعكس هيأة الصغير في عيني المرأة وهو يتقدم. تحضنه ما إن يقترب من جسدها، ثم تضعه في حجرها. يخفق قلباهما في مزيج صامت. يشير الطفل، مستأذنا، جهة بيت الحمام. تشير العجوز بدورها وهي تهز رأسها موافقة، ثم تنهض منشغلة بعملها. خطواتها المرسومة تتحرك في صمت. تخمّ، منحنيةً، الفُتات المتناثر حول كوخها بمكنسة سعفية، ثم تجز الزرع في حزم وتدفع بها إلى شياهها. ومن كيس معلق، تخرج شرائح الخبز اليابس وتنثرها في الأرض لتخرس بها قوقأة الدجاجات الجائعة. ثم تحمل وعاء صفيحيا طويلا وتتجه به ناحية النبع.
في تلك الأثناء كان غصن يكمل تأمله في ردهات بيت الحمام، الذي كان بأربع طبقات تلتصق بجدار طيني فيه جروف كثيرة ومسقوفة بشريحة سعفية رطبة معمدة بجذوع نخل صغيرة. تأمل عشها وبيضها وصيصانها المغمضة. الأمهات تحضن الصغار دون تمييز وهي تتحرك باطمئنان وترسل أصواتها الصباحية من حلوق طرية كصفارات لأطفال. هيأة الحمام تتشكل في كل مرة بوجه جديد، منها ما ينفخ ريش حلقه ويرسل أصواتا خشنة، ومنها ما يدور حول نفسه نصف دورة أو دورة كاملة، وكأنما ليعرض رداءه الريشي أمام عيني الطفل. ومنها ذلك الذي لديه عرف يمنحه شموخ ملك بين رعيته. ثم ظهرت العجوز وفوق رأسها تنتصب الآنية الصفيحية دون حتى أن تقبض عليها. يداها تتحركان بحرية، يسبقها ظلها الهزيل كدليل. ترمق الطفل بنظرة مسالمة، وهي تصبّ الماء في أوعية الشرب الطينية المعلقة في أغصان الأشجار. شرعت تتوضأ لصلاة الضحى بما بقي من ماء، ثم دخلت كوخها. رأى الطفل ظلها منعكسا في الأرض وهي تصلي. نقل عينيه بين الظل المتحرك وبيت الحمام، ثم انسحب راجعا إلى بيته.
قبل الظهيرة تجتمع النساء في صحن الدار، وسطهن يتربع صحن تمر ودلة قهوة ووعاء مائي تعوم في صفحته فناجين مثلومة الحوافّ. كان حديثهن يجذب غصن. موسيقى ما، وضحكات وبكاء وأشجان تنبعث من تلك الأحاديث التي لا تأتي دفعة واحدة، كما هي عند الرجال، بل يعلو الصوت ويهدر ثم يخفت منكسرا، قبل أن يمتد في جدال رشيق يموج وينثني وينام ليصحو فجأة في ولادة جديدة. علقت إحداهن بنبرة استهزاء:
-واحليلك خوي لحريم. تعجبك باه هرجة لحريم. تعجبك. قرب ذويناتك حبابي. قربهن.
أتبعت عباراتها المسمارية تلك بضحكة تردد صداها في الصحون وآذان النساء المحيطات بها. هرب غصن من جلستهن وتسلق جذع النخلة التي تلتصق بجدار البيت وكأنها نبتت لتكون سلما يصل الأرض بالسطح. ومن هناك أرخى أذنيه وواصل الاستماع. كانت عيناه ترسمان في الأعالي بالونات تتطاير في السماء. شكّل كل وجه رآه بالونا ونفخه وأطلقه. المرأة التي سخرت منه رسم لها في خياله جسدا مضحكا وزود وجهها بثألول يخرج من خدها الأيسر، وزود الثألول بشعرة حادة كالإبرة، ثم أطلق جسدها المنفوخ إلى عنان الأفق، وتركها معلقة هناك وهي تستغيث.
كانت أصواتهن تصله كاملة. كن يتحدثن في كل شيء، تتداخل العبارات والنبرات وتتقاطع في فوضى. الحديث عن الختان يجعل الأصوات خفيضة هامسة. أما الحديث عن أسعار السمن فيكون بصوت عال. وعن الجراد اليابس الذي يجمعنه عند الغبش حين ينفضن الشجر الشوكي فوق حصر سعفية. تحدّثن، بنحيب وبصوت مرتفع كالأذان، عن أزواجهن وأبنائهن الذين سافروا طلبا للعمل ولم يرجعوا. تنهدن وبكين وصرخن وعولن.
وفجأة، تدافعت العبارات الخشنة للمرأة ذاتها إلى أذن غصن. أشارت إليها ابنتها الكبرى وهي تصلي. قطعت صلاتها التي كانت تؤديها قرب مجلسهن، في مواجهة لحافة السطح، من حيث تتدلى شحمة أذن الطفل. أشارت الفتاة بأصبعها إلى أمها وحمحمت، فلم تدخر الأم شيئا من صوتها القوي وهو تطلقه ناحية الأذن الساهية لغصن:
-شحمة ذنه باينه، جالس يتصنخ فوقكن ما تشوفن خوي لحريم بوجالس يتصنخ!؟
هبط غصن راكضا من السطح. استعان بكرب النخلة في هبوطه الخفيف، واتجه رأسا ناحية بيت الحمام.
بش وجه العجوز حين اقترب منها غصن. تركته يتأمل بيت الحمام دون أن تقترب منه. لكن غصنا لم يجد في ذلك البيت سوى الصغار وحدها. نظر مستغربا ورأسه ينغل بالأسئلة. فكر في أن يسأل العجوز عن مصير الكبار ولماذا تركت صغارها وحيدة. لكنه اكتفى بطرح أسئلته في ذهنه “هل يترك الآباء صغارهم ويهربون؟ ولكن أمي تركتني. أبي كذلك يتركنا أياما. ولكن هل الحمام يفعل مثلنا، يترك صغاره ويذهب؟”…
أيقظته العجوز من جلسته النائمة بأن وضعت في يده كيسا من القمح. فتح عينيه مذهولا وهو يرى البيت مكتملا بكباره وصغاره: “هل كنت أحلم؟”..
كانت دعوة لا يمكنه رفضها، أن يطعم بنفسه الطيور، التي تهجم وتقترب حين ترى الجهة التي يضع فيها عطاياه. شعر بمتعة لا حدود لها. وحين أكمل ما في الكيس من حبوب، ضغطه بين يديه فتلوى متحدا بفراغه. التفت إلى المرأة ليطلب منها المزيد، مزيد من المتعة كانت تسببها له تلك الحبوب. لكن العجوز لم تستجب. وحين قرب منها الكيس الفارغ، أخذته منه وهي تصوب نحوه نظرات صارمة:
-نحن لا نلعب، أعطيتها ما يكفي من الحبوب. في المساء ستطعمها مرة أخرى، حين تذهب الكبار ثم تعود إلى أوكارها.
-هل تترك الكبيرة صغارها وحيدة؟
-نعم، هي تذهب أحيانا لتحلق في السماء، ولكنها تعود.
-ولكنْ لا توجد طرق في السماء، كيف يمكنها أن تعرف طريق العودة؟
-الحمام يعرف بيته جيدا.
-حمار والدي يعرف الطريق لأنه يمشي على الأرض. كان أبي لا يخبره عن الطريق ويدعه يمشى . ولكنْ هل يمكن للحمام أن يطير مغمض العينين؟
-الحمام لديه ذاكرة كذلك يا بني، إنه يعلّم الصغار أن تكبر سريعا لتطير في السماء.
ثم تركته وزحفت إلى إحدى النخلات القصيرة. حزمت حبل الطلوع على خصرها وبدأت في تسلقها. وحين وصلت إلى رأسها شرعت في قطف التمر ووضعه في سلة سعفية كانت تحملها معها. لم ينظر إليها غصن، بل أكمل تأمله في بيت الحمام والأسئلة تمور في رأسه: “قالت العجوز إن الحمام الكبير يذهب بعيدا ليعلم صغاره الطيران؟ هل ستكبر الصغار ثم تطير؟ ولكنْ أين تذهب حين تطير؟”.
يتوقف شريط أسئلته فجأة إثر نداء من بكيل. سيخبرها بكل شيء. يركض ناحيتها وصدره يخفق من الفرح لأنه سيأتي في المساء ليطعم الحمام مرة أخرى كما وعدته العجوز.
بكيل صنعت، فرِحةً، جسدا من كرب النخل. قطعت الكربة ورسمت عليها وجوها بالفحم، ثم ربطت إليها أرجلا وأيادي. صرخت من الفرحة باحثة عن غصن لتريه اختراعها. ثم ساعدته في صنع واحدة. ركضا ليقطعا كربة من إحدى النخلات. نزعاها بقوة، لم يكملا عملهما بعد أن لمحت بكيل رأس الحمار من الباب فقفزت لاستقبال أبيها. سبقها غصن وهو يركض. كان الأب راجلا وهو عار حتى الخصر، والعرق ينز من جسده، حاملا في كتفه جذع نخلة صغيرة. كان ظهر الحمار محمَّلا بجذوع كثيرة. اندفع الطفلان لتقبيل يديه ولكنه نهرهما في ضيق. ألقى بكل الجذوع على الأرض وربط حماره، ثم انسحب جهة النبع وألقى جسده هناك. وكان الطفلان يتبعانه في صمت.
قرّبت فاطمة صحن الغداء إلى حيث يجلس الأب. كان يجلس أينما اتفق والصحن يأتي إليه، بل جميع من في البيت ينكبّون حوله. هذه المرة لم يفارق محيط النبع الذي يقع خارج البيت، غير بعيد عن عيني الحمار، المنشغل بالأكل من صحن سعفي قدمته له هلالة. وجه الأب كلامه للصبي وقد أوقف اللقمة لتي كانت في طريقها إلى فمه في الفراغ، وكأنه تذكر فجأة ما يجب أن يقوله:
-غدا ستذهب معي إلى السوق.
-ماذا نفعل يا أبي في السوق؟
لم يجبه أحد.
بعد أن أكملا الطعام، ظل غصن وبكيل قليلا بجانب هلالة أمام النبع. ساعداها في سحب لحاء من أحد جذوع النخل الميتة كي تستخدمه ليفة لغسل الصحون. غمسا اللحاء بالطين الأسود وقدماه لها جاهزا، ثم انطلقا، بخطوات متعثرة، صوب بيت الحمام.
اقتربا بحذر. لم تكن العجوز في الأرجاء. كانت تستمتع بقيلولتها داخل كوخها. أخبر غصن بكيل بكل ما سمع من العجوز، بكل الأسئلة التي كانت تمور في رأسه، وهو يقترب ناحية بيت الحمام، وبكيل تتبعه بحذر.
كان قشر البيض يتناثر على طول وعرض ساحة البيت الصغير. أدخل إصبعه ولكن حمامة كبيرة نقرته فسحبه بسرعة. أدنى إصبعه من عينيه وعيني بكيل فلم يريا أثرا لتلك النقرة، فأدخله مرة أخرى. نقرته الحمامة ولم يسحب يده. شعر بأن إصبعه جزء من ذلك البيت. ثم مرره حيث تنكمش الصيصان، فانتفض جسده بالنشوة وهو يحمل صوصا تشبث بأصبعه وتسلقه. ارتفع بالصوص إلى خارج عشه. كان الصوص يرفرف متوازنا وهو يعلو. قرّب غصن وجه الصوص من عينيه، تأمله، تبادلا النظرات بوداعة. الصوص يرسل صفيرا خافتا، محركا ريشه الطري على بشرة غصن. أغمض الصوص عينيه ونام، فأرجعه الطفل بهدوء إلى القفص. ثم أخذ صوصا آخر ورفعه. بكيل رفضت أن تشاركه سوى بالنظر. أغمض الصوص الثاني عينيه ونام على خد غصن. أرجعه نائما إلى بيته ثم رفع صوصا آخر وفعل به كما فعل بالأول والثاني. وهكذا أنام جميع الصيصان في ذلك القفص. انسحبا، بعد ذلك، بهدوء ناحية البيت. انكبّت بكيل على لعبها وصعد غصن جذع النخلة المنحنية على السطح. ومن هناك واصَل تأمّل بيت الحمام وحيدا.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي ” ضفة ثالثة”