لذلك حتى لو توفرت عوامل استفتاء طبيعية كي يقر الشعب الدستور الجديد، فإن تطبيقه يحتاج إلى مؤسسات قوية هي في الحقيقة غير موجودة.
كانت مشكلتنا في تطبيق القانون وليس في القانون، وكل ما يحدث الآن هو بسبب اضاعتنا للدستور الناجز والبحث عن دستور جديد.. على ان الاوضاع الراهنة صارت تقودنا إلى ما هو أبعد، حيث تفكك الدولة إلى اقاليم ذهنية متخيلة، إضافة إلى تحول الشعب إلى شعوب تتناحر ضمن هويات طارئة ماقبل وطنية، بمعنى انه لم يكن لدى الشعب مشكلة مع الدستور ، وانما في الاستخدام المنحرف والاستئثاري للسلطة، كما سوء الادارة المتغلغل بالفساد.
لذلك حتى لو توفرت عوامل استفتاء طبيعية كي يقر الشعب الدستور الجديد، فإن تطبيقه يحتاج إلى مؤسسات قوية هي في الحقيقة غير موجودة.
ولقد تم الاستعجال والتخبط والارتجال في سلق مستقبل جديد للبلاد يقود إلى احتمالات خطر مفتوحة على مصراعيها خصوصاً في ظل حالة عدم الثقة العميقة التي تحكم العلاقة بين الأطراف السياسية والكيانات المجتمعية.. والصحيح انه تم التنكيل بدستور دولة الوحدة عدة مرات من بعد حرب 94، إلا انه كان من المفترض على الاقل بعد ثورة فبراير 2011 اجراء تعديلات على الدستور القائم مضمونة النجاح.
وبالخلاف من هذا المنحى ها قد قادتنا مرحلة ما بعد مؤتمر الحوار إلى حالة فراغ قوية، من الطبيعي -بحكم الصراع الذي نشب وأفضى إلى تقويض كيانية الدولة ودستوريتها- ان تؤدي إلى قلق بالغ جراء امكانية خلقها لواقع غير متوقع خصوصاً في ظل عدم وجود آفاق حقيقية للسيطرة على الصراع، مع العلم أن المؤتمر نفسه انعقد قبل أية تهيئة تتصل بالأوضاع في صعدة والجنوب، كما ان حالة حرب الانقلاب والشرعية -واستفادة الارهاب منها في تغلغله الكاسح- انتجت العديد من العوامل التي تهدد وجود الدولة نفسها ووحدة التراب الوطني.
وأما المحصلة المتأججة اليوم فتكاد تتمظهر في اندثار الكيان والإنسان والهوية في اليمن جراء تصرف نخبة موفنبيك بخفة محضة وبعيداً عن الواقع، حتى أن مشروع فيدرالية الأقاليم بدا وكأنه وعاء لرغبات عدة أراد أصحابها فرضها دون مخيلة سياسية ذات شروط ناضجة للأسف.
هذه هي الحقيقة الوحيدة الثابتة في اليمن الآن بعيداً عن التصورات الساذجة والعاطفية.
وإذ ينبغي التذكير بأن شرعية هادي الانتقالية قائمة في الدستور النافذ وليس في مسودة دستور الدولة الافتراضية، فإنه ينبغي التذكير بأن الثورة الشعبية السلمية قامت ضد النظام بما هو ممارسة انحرافية للسلطة وليس لإقرار صيغة دستورية لدولة غير موجودة.. بل إن مخرجات مؤتمر الحوار التي شملت كل ما يمكن أن يرد في أي دستور زادت بنوداً لا ترد إلا في القوانين ومن ضمنها حزمة من البنود والمواد الخلافية التي لا مكان لمناقشتها خارج مجلس نيابي أو اطار اجماعي متفق عليه لاحقاً .
تذكيراً: كانت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني قبل اندلاع ثورة 2011 بعامين قد اطلقت ما اسمته مشروع رؤية للإنقاذ وذلك في سبتمبر 2009 ، كنتيجة لمؤتمر التشاور الذي تم في مايو 2009 بمشاركة أحزاب اللقاء المشترك وعدد من القوى السياسية والإجتماعية والثقافية الحليفة لها، وقد حملت الرؤية اقتراحات بتغيير شكل الدولة من الدولة البسيطة إلى دولة اتحادية- فدرالية، للخلاص من الحكم الفردي المشخصن الذي حول الدولة من مشروع سياسي وطني إلى مشروع عائلي ضيق أفضى إلى تقويض وإهدار نضالات وتضحيات أبناء اليمن والقفز على مكتسبات وأهداف الثورة اليمنية ومضامين وحدة 22 مايو السلمية 1990م- بحسب ما جاء في الرؤية.
على أن في الأمر تبسيطاً للأزمة، وابرازاً لجانب من أسبابها، في ظل الإغفال للكثير من الأسباب البنيوية البارزة التي أعاقت اليمن عن التطور، وغذتها كل مراكز القوى المهيمنة منذ زمن.
لكن إذا كان أصحاب وثيقة رؤية الإنقاذ يرون النضال السلمي حينها هو السبيل لفرض مطالبهم، فقد قامت ثورة 2011 ولم تكن تلك الرؤية للحل متموقعة في الوعي الشعبي، أو ممكنة التحقيق عند الجميع ، على الرغم من أن مقتضيات التوافق على إصلاح دستوري يحقق تطوير النظام السياسي وتغيير النظام الانتخابي كان أمراً مقبولاً برأي مراقبين في حال صفت النوايا من قبل الجميع واخلصت.. لكن الشواهد تقول أن الوحدة قامت في 90 وانفجرت الحرب بين الشمال والجنوب في 94، بعد أن تم التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، ثم طرح المشترك في 2005 مشروع الاصلاح السياسي -بدون حامل شعبي- بعد أن انفجرت في 2004 حروب صعدة المتوالية. وكذلك طرحت المعارضة مشروع انقاذ في 2009 لتقوم ثورة سلمية تجاوزتها وتنفجر الحرب جزئياً، وصولاً إلى المبادرة الخليجية، وفرض مؤتمر الحوار “الموفنبيكي” الذي تفجرت بعده الحرب الشاملة ليتضح أن الحروب هي المتجددة الوحيدة في اليمن، أو ربما هي المشروع الفاعل الأكيد لمن يريد تكرير النتائج والمعطيات، بينما المتغيرات الواقعية تظل ثابتة في السوء والتدهورات أكثر.
واليوم: كيف يمكن مواجهة خطر تقسيم البلاد وعدم الحفاظ على وحدتها في ظل حالة الانقسام الجهوي والتطييف الذي حدث للصراع السياسي؟ ثم ما الذي سيجعل الرؤية الاقاليمية تنتقل من خانة التنظير إلى واقع متحقق وملموس في ظل تهرب الجميع من الاستحقاقات وفي مقدمتها أهمية وجود دولة ترعى هذا كله ما بالكم وأن الجميع يراوغون تجاه مسألة انشاء هيئة وطنية للمصالحة والإنصاف؟ وبالمقابل هل من المفيد اقناع اليمنيين بفقدان الأمل بإمكان التغيير بالوسائل الديموقراطية باعتبار العنف هو السبيل الوحيد والأخير فقط؟
وتنفرط الاسئلة: ماذا تبقى اليوم -وماذا سيتبقى غداً- من طروحات حالة الحكم المحلي واسع الصلاحيات، و حالة الحكم المحلي كامل الصلاحيات، و الحالة الفيدرالية واللامركزية الخ، في ظل حالة الانقسام الوطني والانسداد السياسي والحرب المدمرة والتحديات الامنية الهائلة والأزمات الاقتصادية غير المسبوقة؟
بل كيف سيكون المناخ القادم تجاه تنظيم الانتخابات بالإرادة الحرة للناس وهناك مظالم وانتهاكات ودماء تسفك دون توقف، بينما تحديد القضايا الاولوية لايزال -حتى اللحظة- اعتباطياً لا يستند على قراءة موضوعية!
تحديداً: من سيحدد مستقبل اليمن بحسب الارادة الشعبية الديمقراطية المفترضة في حال استمر غياب الرؤية العملية الواضحة هو من يتوج الارادة السياسية الكسيحة في البلاد ولاشيء يتقوى سوى الميليشيا والميليشيا المضادة التي لن تجلب لليمن إلا نفس ما جلبته الحالة الحوثية من عبث معتوه لا يُحتمل.
يزيد الطين بلة تعنت الانقلابيين وحلفائهم، إضافة إلى تفاقم السلبيات في أداء الشرعية وحلفائها بالمناطق المحررة منذ أشهر، وخصوصاً عدن، وهي الشرعية التي ما زالت تنسى مناطق استراتيجية مهمة من أبرزها المكلا ،كما تتعامل على نحو غامض ومختل خصوصاً مع تعز.
ولعل من أهم المخاطر حتى اللحظة عدم تبلور شعار وطني جامع يؤطر تيارات المقاومة في عموم البلاد، لتكون مقاومة وطنية بمشروع وطني واضح وضامن، يجعلها محصنة -في كل المراحل- بالقيمية الوطنية وعدم الانزلاق إلى مشاريع طائفية أو ارهابية صغيرة من أي نوع.
أما استمرار التلهي الانفعالي بمواصلة إنتاج العنف لفرض خيار سياسي ما، فهو التلهي القائم على التضخيم أو التبخيس البليد والموهوم للذات أو للآخر، التلهي النزق الذي لايضع اعتبارات موضوعية وعقلانية للمكنات وللمتاحات وللعقبات وللصعوبات الداخلية، كما لحساسية الاقليم والمجتمع الدولي من القضايا المستجدة في اليمن، ما سيقود إلى خيارات جلها قاسية ومكلفة في الشكل والمضمون، بل وتعرض اليمنيين لاختبار وجودي رهيب، قد يفضي بهم إلى قعر الجحيم الشاخص الذي يفترض الفكاك منه بكل السبل وليس العكس كما هو حاصل.
فإذا كانت المراوغات المكرورة لايمكنها أن تقود إلى القرارات والمسئوليات الاستثنائية فإنه لايمكن أن تقودنا العصبيات والثارات والمصالح غير العامة والتصدعات المتوالية، للاستقرار وللبناء ولحل الاشكالات التي تتعقد كل يوم أكثر، ما بالكم بما يجري للأسف من عدم استيعاب للمتغيرات وللأعباء وللمآزق وللضغوط.
فجرّاء لا صوت يعلو فوق صوت الحرب ستكون السياسة تابعة للواقع أصلاً وليس العكس، كما أن وضع اليمن سيظل معلقاً في انتظار ما ستسفر عنه إرادة الحرب فقط، وحينها ستنشأ مطالب إزالة آثار الصراعات المسلحة السابقة واللاحقة في المجتمع والدولة.. الدولة التي تم الاتفاق على وأدها، كما ستشمل تلك المرحلة بالتاكيد أسئلة معمقة حول المستجدات التي سببها ويسببها العنف وتتغذى به.
في حين ستتشكل مراكز قوى جديدة غير منضبطة ستؤثر في موازين ومتطلبات المرحلة القادمة، ليبقى على جميع القوى تحديد موقعها من المشكلات القديمة والطارئة أيضاً بعيداً عن التسويف والاستغلال
اما وان التدخل السعودي الذي لن يكون محدوداً كما يعتقد البعض، إذ سيمتد للمرحلة القادمة، فإلى أي مدى سيستطيع منع اليمن من الانهيار الكلي، وماهي أجندته التي تحتاج الى وضوح لايحمل أي التباس، مع الآخذ بالاعتبار جملة الأخطاء التي ارتكبتها مختلف الاطراف بدون استثناء، فحتى الآن مازالت تلك الاطراف تصمم على التعامل معها باللامبالاة ، من الانقلابيين إلى الشرعيين وما بينهما، بينما يبدو جلياً لأي مراقب أن هناك إشكاليات لامحدودة ستبقي اليمن معلقة بلاشك، خصوصاً إذا لم تتولد لدى الجميع قناعة ناضجة وراسخة بأهمية تصحيح الاخطاء وتحديد الأولويات، لنخلص إلى أن التعاطي مع كل التعقيدات -أعلاه- بسطحية وفوضوية هو مآل أسوأ من الانتحار طبعاً!
لكن حتماً ستأتي تلك اللحظة التي سنؤمن فيها بأن أي طرف لن يستطيع إعادة صياغة المستقبل حسب مقاسه كما يعتقد.. والخشية فقط أن تأتي بعد فوات الأوان.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.