أشرب الماء البارد على مهل وأطيل المكوث أمام نافذتي المفضّلة مركزة ناظريّ على جهة الشرق حيث أمّني النفس بمشهد شروق جليل من الواضح أنها ستكون ليلة طويلة .. ليلتي هذه .. من العام 2013 ، فأنا أعرف هذه الظواهر جيدا لطول العشرة: هطول أفكار غزيرة داخل رأسي – متزامنة مع أصوات القصف وهطول القذائف الغبية من البراميل – ما إن تأتلف وتنسجم، حتى تتضارب وتتنافر، وحين تبدو أنها اتخذت سبيلا لها “سربا” يسمح لخيط نعاس أن يتسلل إلى قلبي.. حتى تفترق وتضيع في هموم لم تجد حلولا لها في النهار، ولكنني – وأنا أمضي قدماً في عنادي بقهر الأرق وأقوم بخطواتي المرتبة والمحفوظة: في إجبار جفوني على الإطباق أولا، ثم محاولة التقاط فكرة واحدة من بين هذه الدغلة والتوغل فيها.. لعلني أثناء السير معها أغفو .. فأنام- أعرف مسبقا وأعرف جيدا أن نهاية واحدة وحيدة بانتظاري: الهزيمة، وأن “العزيز النوم” سيوغل في الابتعاد مثل كل شيء مطلوب ومرغوب، لذا أبتكر ذريعة وجيهة كأن أدّعي لنفسي بأنني عطشى وأنني أنهض الآن لهذا السبب وليس لأن الأرق هزم عنادي!
أشرب الماء البارد على مهل وأطيل المكوث أمام نافذتي المفضّلة مركزة ناظريّ على جهة الشرق حيث أمّني النفس بمشهد شروق جليل و.. كتابة وصف له يغري بقراءته، ويغوي الآخرين بالنهوض من أسرّة الأرق إلى فضاء نهار يولد..
طموح براق يجعلني أسارع إلى حيث أكتب – إلى هذه الشاشة – أحملها وأخرج بها إلى الشرفة وأنظر إلى الشروق، أكتب:(تنسلّ خيوط الشمس الذهبية من سمائها الليلية لتهبها نهارا جديدا..) أتوقف هنيهة عن الكتابة وأنظر إلى الشمس لأتأكد أن خيوطها “ذهبية” وليست “فضية”، وأبتسم حين أتذكر أنني في حياتي كلها لم أستطع التوصل إلى حقيقة لون شعاع الشمس: أذهبي هو أم فضي؟ ولم أستطع أن أعرف سرّ إصرار الناس على وصفه بالذهبي، وهل أية “حقيقة” تكتسب اسمها بسبب شيوعها على ألسنة الناس بصرف النظر عن مدى تطابقها مع ماهيتها؟ وهل توجد “حقيقة” لأي شيء أصلا؟ أم أن حقيقة الأشياء ليست سوى ما نراه نحن فيها بحسب مبلغنا من العلم وزاوية النظر والوجهة والاتجاه؟ وقد تتدخل الرغائب، ويتدخل الهوى والخيال في إضفاء حقائق على الأشياء وعلى الناس ليست لها / لهم، أليست مفردة “الشرق” مصحوبة دائما بكلمة “السحر” قبلها كما لو أنها حقيقته الوحيدة التي تختزله على الرغم من غموض معناها ؟ أليست مفردة “الإمبريالية” تستدعي دائما كلمة “الاستعمار” معطوفة عليها ومغيبة بذلك كتلة كبيرة من منجزاتها الحضارية الكونية؟ ومؤخرا ألصقت مفردة “الإرهاب” بالإسلام وأصبحت كل واحدة منهما تستدعي الأخرى على نحو فج وتعميم غبي مقصود، يصير معه الباحث عن الحقيقة كالقابض على جمر.
أما أنا الأرِقة فوداعا لأملي في إغفاءة ترتاح فيها جفوني من التحديق في هذه المساحة الضيقة، وحيث أن هذه الليلة المستعادة من العام 2013 استطالت وامتدت حتى العام 2018 ، دون اختلاف جوهري سوى باختلاف أصوات القصف وتمييز أنواع الطائرات والبراميل والجهة التي تنطلق منها، وربما أيضا طريقة الاصغاء إلى التحولات التي أصابت عقلي وروحي في تفسير ما جرى للوطن .. الوطن الذي أصبح “حقيبة” يحملها المرّحلون /
وسلاما على الملك الضلّيل الذي أعطى الليل حقيقته كما رآها:
وليل كموج البحر أرخى سدوله / عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”