آراء ومواقف

قصتي مع جمعة الكرامة

عامر السعيدي

مع كل ذكرى، أفتح سطرا جديدا وأحاول العودة فيه إلى البدايات ومعي كل الخيبات إلا الندم، أحاول أن أعود إلى الثامن عشر من مارس 2011، إلى القصة التي بدأت من محراس القات و اكتملت في ساحة التغيير بصنعاء.

 لست متأكدا إن كنت أستطيع كتابة ما أريد أم لا. لقد حاولت من قبل و فشلت، تعثرت كثيرا بالخسارة والخذلان، وبعلامات الترقيم، بالفواصل والنقط التي أضعها في المكان الخطأ غالبا، لكنني ما زلت أحاول رغم ذلك.
مع كل ذكرى، أفتح سطرا جديدا وأحاول العودة فيه إلى البدايات ومعي كل الخيبات إلا الندم، أحاول أن أعود إلى الثامن عشر من مارس 2011، إلى القصة التي بدأت من محراس القات و اكتملت في ساحة التغيير بصنعاء.
لقد خرجت من القرية ليلا في تمام الثالثة فجرا، ودخلت المدينة ليلا،وكان للنهار بينهما ألوان علم البلاد.. أحمر الحرية في الأعلى، بياض أحلام الشهداء في الوسط، و في الأسفل سواد السلطة والتسلط.
غافلت أمي، نسيت أن أملأ جيوب معطفي بدعواتها، لم أفكر فيما ينتظرني، كان الحماس يدفعني إلى حيث تقف الاحتمالات كلها بما فيها الموت.
لطالما تمنيت هذه اللحظة، اللحظة التي فلتت من سيطرة القدر، و تمردت عليه، و توسعت حتى صارت قدرا بذاتها.
في جهاز الراديو الصغير و الرديء، كنت أتنقل بين إذاعة البي بي سي و إذاعة منتكارلو، كنت شغوفا بالأخبار حد الهوس، أتابع أحداث الربيع العربي وسقوط الحكام العرب تباعا، كنت مندهشا ومسرورا بما يحدث، أنصهر في الهتافات كما لو أنني الهواء الذي تتعانق فيه و تصعد تصعد تصعد قبل أن تقع على رأس النظام كالصواعق.
إنها الثورة إذن، الخلاص الذي يتوق إليه الكادحون.
إنها الثورة التي أحبها الولد القروي قبل أن يجد الطريق إليها، وقبل أن يتعرف على فلسفة الثورات وفلاسفتها، على جان روسو الأب الفكري للثورة الفرنسية، وقبل أن يقرأ البيان الشيوعي ويبصق مع ماركس على رأس المال، قبل أن يشاهد قناة الجزيرة أو يشهد على مجزرة الكرامة.
في المساء، ألقى أمين التحية و فتح لي أبواب صنعاء، أمين صاحب الألقاب الكثيرة، أمين عبده/ أمين غالب/ أمين وحش/ أمين السعيدي/ أمين الحجوري/ إنه كثير، وهو بالمجمل أمين واحد، ابن العم و الدم، رفيق الحكايات كلها، صديقي الذي تقف نجمتان على كتفيه وأعلى رأسه الطير الجمهوري بعد أن أصبح أول ضابط طيران في القبيلة والمنطقة التي لم يسمح النظام لأبنائها بدخول الكليات العسكرية.
مع أمين كنت أتحدث بهدوء عن عظمة هؤلاء الشباب الذين خرجوا إلى الساحات و هم يهتفون بشعار الشعب يريد إسقاط النظام، كان يتفاعل ويعلو صوته الحاد حتى يملأ وادي الشاج وهو يشرح لي كيف سقط الرؤساء وماذا قال المحللون في القنوات الإخبارية وكيف أن الأمواج انتقلت من البحر إلى عواصم دول الربيع العربي .
أنا أتحسر، والله يا صاحبي لو معي فلوس حق مواصلات لكنت الآن معهم. أما هو فقد رد بصوت هاديء هذه المرة ” خلاص نطلع سوى والفلوس موجودة، ظننته يمازحني، تخرج من كلية الطيران للتو، ومازال عريسا لم يكمل شهر العسل، كنت مستغربا وكان جادا، قال إن الدكتور علي زاهر مسافر إلى صنعاء لشراء أدوية ومستلزمات طبيه لصيدليته، وسوف نسافر معه قبل الفجر مجانا.
لقد فعلناها فعلا، تركت الراديو تحرس القات نيابة عني، ربما يتوجس اللصوص من صوتها إلى أن يأتي أحدهم من البيت مع الصباح ، وترك صاحبي عروسته و خرج في العتمة و هو يخبيء أول نجمتين حصل عليهما في الشنطة و يمشي معي إلى الفجر الذي أشرقت شمسه من شفاه الثوار في ساحات الحرية و التغيير.
في الطريق إلى صنعاء، كانت الأرض واقفة لا تدور، وكانت المسافة تزداد طولا كلما اقتربنا، ونحن ننحدر من جبال حجة باتجاه صنعاء، كانت الجمعة قد تحولت إلى خبر عاجل تضج به الدنيا، أخبرنا أحدهم أن صنعاء غرقت في الدم، اختلط صوت الله بأصوات الرصاص و هتاف الجماهير، ارتكب النظام مجزرة بحق الملائكة و هم يؤدون الصلاة، فذهب أكثر من خمسين منهم شهداء.
أمهاتنا في القرية أصبن بالرعب، لأول مرة يبدين اهتماما بالأخبار، أمي بالذات لم تعلم أنني سافرت صنعاء إلا من أم صديقي، يا للهول !
على طول الطريق بين عمران وصنعاء كانت النقاط تستوقفنا، يحدق الجندي بتجهم وصمت ثم يلوح بيده أن مروا.
في مدخل صنعاء كانت الأسئلة تنط من أفواه العساكر كالضفادع، وكانت الزحمة في الأزرقين خانقة حد القرف بسبب التفتيش والإجراءات الأمنية المشددة.
وأخيرا دخلنا صنعاء مع غروب الشمس تماما، كانت المرة الأولى التي أصل فيها صنعاء، في مذبح توقفت السيارة، كانت المدينة ترتجف، واجمة و مرعوبة وحزينة، صوت الأذان كان كسيرا، كلما ارتفع قليلا عاد إلى الأسفل على شكل دموع، قنوت المصلين كان يحشرج من كل مسجد، يدعون على الظلم والظالمين، يترحمون على الشهداء، ويسألون الله السلامة لليمن.
في الشارع كانت الجنائز هي التي تمشي، كل الناس يبدون كما لو أنهم قتلى، خطاهم ثقيلة و وجوههم شاحبة وداكنة.
لقد كان كل شي يبكي، حتى أضواء السيارات و مصابيح البيوت و إنارات الشوارع، كان الرعب كثيرا و الحزن أكثر.
لا أدري هل تناولنا وجبة العشاء أو لا ، لكنني أتذكر أن الذين معنا قالوا يجب أن ننام في الفندق لأن القناصة في كل مكان و دخول الساحة مستحيلا، رفضنا الفكرة أنا و أمين، قلنا أننا سندخل الساحة ولن ننام إلا فيها، ذهبوا إلى الفندق و توجهنا للساحة، في مدخلها استقبلنا الشباب بلطف و حذر، بعد التفتيش دخلنا من جهة إيجل، كان كل الذين في الساحة شهداء وشهودا على أقبح جريمة اقترفها رئيس البلاد بحق الشباب الذين رفعوا أصواتهم عاليا ضد الجوع والتوريث.
أظن أن عبدالغني زاهر السعيدي هو من استقبلنا، مشى أمامنا صامتا كضريح، أخذنا إلى حيث نز دم الكرامة، كانت دوائر حمراء في كل مكان، إنه ماء الحياة، ثوب صديقنا كان أبيضا ناصعا حين خرج فيه للصلاة، وعندما وقعت عليه عيوننا تحت الضوء كان مصبوغا بالأحمر، لم نتكلم لكنه أخبرنا أنه كان ينقل الجرحى والشهداء .
 
في جولة القادسية انهار الجدار الناري وجرت أنهار من نور الشهداء، كان كل شيء هناك متوترا ومرتبكا، الأرصفة، الخيام، الجدران، واجهات المحلات، نوافذ البيوت، و أحذية الضحايا التي بقيت في العراء، كان دخان الحرائق متصاعدا، وكان الله يعجن الدم والماء بتراب اليمن في شارع الجامعة.
لقد مرت تلك الليلة علينا في القادسية كعمر ، كان الموت قد فقد هيبته في صباحها، وكنت بين الجموع أمام منصة الثورة واقفا للنشيد الوطني الذي استوعبته لأول مرة، هزني بقوة، لم أشعر بجلال النشيد الوطني و جمال العلم إلا ذلك اليوم.
كنت في الزحام، مجهولا و مذهولا، وكانت اليمن من حولي بكل ألوانها، كل اليمن كانت هنالك، إنها الثورة يا الله و ها قد صرت ثائرا و بإمكاني أن أموت باطمئنان كما فعل شهداء جمعة الكرامة يوم أضافوا خمسين نبيا للسماء.
في الظهيرة، كان ابن عمي الذي فقدته صباحا في زحمة الثوار يقف على منصة ساحة التغيير مرتديا بزته العسكريتة وسمرته، يتحدث بشجاعة، معلنا انحيازه للثورة ومخاطبا الرئيس بلا صفات رسمية ولا اعتبارات، لم أزل أتذكره وهو يقول” يا صالح، واجه قدرك بشجاعة و ارحل”
في اليوم التالي، الأحد الذي وصلت فيه الثورة ذروتها، كان يفترض أن تسير جثامين الشهداء إلى دار الرئاسة، تنام في باحته للأبد، وكان الثوار متحمسين للزحف، لكنهم قبل أن يفعلوا ذلك، كان نصف رجال الرئيس يتقافزون من على السفينة و يركبون الثورة، إنهم يجهضون ذلك الزخم العظيم، يقفون بين الثورة والنظام، ويحملون الشهداء إلى الاتجاه الخطأ، يقتلونهم مرة ثانية، ومن يومها بدأت الثورة في الانحدار، ضاقت على أبنائها، وأكلتهم يوم أكلها المتخمون.
كان ذلك و أكثر قبل أن أعرف الرفاق الذين بقيوا لي من تلك الذكريات، كما بقيت لنا من تلك الثورة العظمية صور الشهداء، وبقي الأمل فيها يسكن قلوب شبابها بعيدا عن صنعاء وعنها وهم يواسون أنفسهم بعبارات من قبيل ” لابد من خير” الثورة مستمرة” سننجوا” و ” لن يمروا” كما يعاتبونهما معا، صنعاء والثورة، وبلسان معن دماج، أحد أبنائها المخلصين، يوم قال :
إنه مارس يا صنعاء ..
ومايزال أبناؤك الذين كبروا في القبر سبع سنوات .
يحلمون بالنصر !!!
نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى