يا لها من فترة زمنية طويلة كنت خلالها مفعماً بالأمل ومثقلاً بالإحباط الناجم عن بيئة لا تتسع للأحلام، وتنفتح على أكثر التدابير قذارة في إدارة المصالح على مستوى الافراد والجماعات والسلطة.
مضى حتى الآن خمسون عاماً على مولدي في قرية صغيرة من قرى سامع في محافظة تعز. كان حدثاً عادياً في أوائل العام 1968، شهدته عائلة ممتدة في ريف يعتمد على الزراعة، وتتمتع بقدر من الوجاهة الناتجة عن امتلاكها مساحة أكبر من الأرض المروية بمياه الأمطار، عما سواها.
يا لها من فترة زمنية طويلة كنت خلالها مفعماً بالأمل ومثقلاً بالإحباط الناجم عن بيئة لا تتسع للأحلام، وتنفتح على أكثر التدابير قذارة في إدارة المصالح على مستوى الافراد والجماعات والسلطة.
لا أدري كيف تجاوزت عتبة البيئة الريفية المغلقة ضيقة الخيال، لكنني أزعم أن خيالي كان جامحاً إلى حد كنت معه اتسبب بقدر كبير من الإزعاج للأسرة بفعل رغباتي الدائمة في الانتقال ولو إلى القرية المجاورة حيث يوجد أقارب كُثر للأسرة.
في الواقع توجد مسافة كبيرة بين الرضا السلبي ورفض الواقع، ولا أدري كيف تمكنت من تجاوز هذه الحلقة محكمة الإغلاق المعروفة بـ: “الرضا السلبي”، فيما بقي عدد من أقراني الطيبون في تلك القرية حتى اليوم وأصبحوا أسراً كبيرة مثقلة بهموم المعيشة اليومية.
كانت نظرتي للحياة تتجاوز التصور الساذج لسكان القرية الذي كان يفترض أن الكونَ لا يمتد ابعد من الجبال المحيطة بتعز، وكان كل سلاحي في وجه هذا التصور الساذج، هو النظرة الاستثنائية لما وراء الجدار، حيث تكمن الحياة التي أتطلع إليها.
يقال إن مواليد برج القوس يحبون السفر، وأنا كذلك أحب السفر حتى أنني اخترت مهنة الصحافة لأنها مهنة متاعب حقيقية، فالبحث عن المعلومة يقتضي الانتقال والارتحال.
كانت الصحافة اختياراً مبدئياً بالنسبة لي، لكنني رغم ذلك التحقت بقسم التاريخ في جامعة صنعاء في خريف 1988، لأنه لم يكن هناك قسم للإعلام، والتاريخ هو سفر شامل للعلوم، وقد كان اختياراً موفقاً لأن التاريخ يمنحك القدرة على تتبع جذور الأحداث وقراءتها في سياق يمتد طويلاً في عمق الزمن.
آزرَ اختياري لهذا التخصص المناضل الكبير اللواء منصور أحمد سيف، يرحمه الله، الذي كان قد فاز عن مديرية الصلو بعضوية مجلس الشورى، أول برلمان منتخب في شمال اليمن قبل الوحدة، ومات وهو عضو مجلس الشورى، بما هو الغرفة الثانية غير المنتخبة ومنعدمة الصلاحيات التشريعية.
حيث وكان اللواء الراحل في تلك الفترة يكون ثنائياً مستقلاً إلى جانب الشيخ سلطان السامعي الذي فاز بعضوية مجلس الشورى عن مديرية خدير، وكنت أشبه بمدير حملة انتخابية بالنسبة له بحكم القرابة الأسرية بيننا ولأنني كنت أدرك فرصه الكبيرة في الفوز بسبب شعبيته.
في سني الدراسة الأكاديمية لم أكن جزء من البيئة الجامعية إلا في السنة الأخيرة، التي كانت مفعمة بالنشاط والحيوية والحضور داخل كلية الآداب في جامعة صنعاء.. في تلك السنة كانت قد تكونت لدي خبرة معتبرة في مجال الكتابة خصوصاً وأنني تدربت على الكتابة الموسوعية حينما عملت لمدة سنة سكرتيراً لأول نسخة من الموسوعة اليمنية التي تصدر عن مؤسسة العفيف الثقافية أهم وأكبر مشروع ثقافي فردي في اليمن.
وفي الكلية ساهمت بشكل رئيسي في تأسيس جمعية ابن خلدون الثقافية، وكتابة نظامها الأساسي، وهي مشروع ثقافي كبير تأسس على أكتاف شباب وشابات متحمسين في الجامعة ولكنه أصيب بانتكاسة بسبب دور الأحزاب التي أصرت على الدفع بعناصرها للسيطرة على الجمعية التي لم تنشط منذ ذلك الوقت.
التحقت بمؤسسة العفيف الثقافية في عام 1991وأنا في السنة الثالثة جامعة، سكرتيرا للمؤسسة وللأستاذ أحمد جابر عفيف يرحمه الله، بسعي من الأستاذين الجليلين أستاذ التاريخ اليمني واللغة اليمنية القديمة بجامعة صنعاء، يوسف محمد عبد الله وأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة صنعاء، سيد مصطفى سالم.
خلال عملي بالمؤسسة قمت بإعادة ترتيب وتصنيف مكتبتها الكبيرة، كما هي المكتبة الخاصة للأستاذ أحمد جابر عفيف، وأشرفت على تحرير وإصدار العديد من الكتب الدورية.
وفي أثناء عملي بالمؤسسة شاركت في تأسيس الجمعية اليمنية لمواجهة أضرار القات، وشاركت الدكتور عبد الله الذيفاني كتابة النظام الأساسي للجمعية، وكان من بين أعضاء اللجنة التحضيرية، إلى جانب رئيس اللجنة أحمد جابر عفيف: الوزيران رشاد العليمي، وعبد الله محسن الأكوع، والمرحومة الدكتورة رؤوفة حسن والدكتور عبد الله الذيفاني، والسفير المرحوم محمد الرعدي وآخرون لم أعد اتذكرهم.
وحينما اشتد أوار الأزمة السياسية بعد انتخابات عام 1993، صدر قرار جمهوري بتشكيل لجنة عليا للحوار الوطني برئاسة أبوبكر العطاس والأستاذ عبد العزيز عبد الغني، عملت سكرتيراً وكاتب محاضر لهذه اللجنة الذي كان الأستاذ أحمد جابر عفيف مقررها.
أزعم أن تلك الفترة كانت خصبة بالنسبة لي فقد نضج وعي السياسي وأدواتي في الكتابة، على الرغم من الأجواء الحذرة التي كانت تسود العمل في هذه البيئة فقد واجهت مكايدات من شخصيات سياسية كبيرة لمجرد أنها لم تكن تحصل على فرصة تمرير مقترحاتها التي لا يتم إقرارها في محضر جلسات اللجنة العليا للحوار الوطني.
عند هذه المحطة سأتوقف، لأن الأمر بالنسبة مجرد تنشيط للذاكرة، فالناس لا يكترثون عادة لحياة من لا يشكلون رقماً مهماً، مثلي.
وفي بلداننا العربية المرء يصبح رقماً مهماً عندما يلتحق بالدائرة السلطوية، وهو أمر يحاط عادة بمعايير في غاية الابتذال والانحطاط، غالباً ما تقف معايير كهذه وراء تصدر أفراد لا مؤهلات حقيقية لديهم، الواجهة السياسية.
كان هذا النسق من التأهيل لمراكز السلطة سائداً في عهد الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وبقي سائداً في عهد خلفه الأقل شأنا عبد ربه منصور هادي، المحتجز في الرياض والذي يقاتل من أجل ألا يدخل في سجل التاريخ باعتباره الرئيس الذي تمزقت على يديه اليمن ولم يجد فيها مكاناً يلوذ به حتى بلدته الوضيع.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.