قصّة بسيطة، تحكي اكتشاف عبد الله للمدينة الكبيرة صنعاء تبدأ قصّتنا على حين غرّة، وتجمعنا الأحداث دون علم مسبق. قصّة بسيطة، تحكي اكتشاف عبد الله للمدينة الكبيرة صنعاء ولقائي بالحياة القرويّة التقليدية. لكنها في الآن نفسه تؤرخ لأول مغامرة كبيرة تشهدها طفولتي.
يستيقظ عبد الله، كما اعتاد على ذلك كل يوم، مع انبلاج ضوء الشمس. وككل صباح يباشر عمله اليومي. شيء وحيد لربما، يثير قلقه الآن، الحمّى التي استبدّت مؤخراً بأخيه خالد. في هذا الصباح تتناول الأسرة طعام الإفطار بدونه.
يسرج عبد الله حماره ويمتطيه متوجهاً إلى الحقل ليباشر عمله اليومي، قبل أن تشتدّ حرارة الشمس ويستحيل عليه الاستمرار في العمل. رابح، ابن الجيران، يحضر عَدواً من القرية باتجاهه، حتى يخبره بأن حالة أخيه خالد الصحية ازدادت سوءاً. يمتطي عبد الله صهوة حماره مباشرة ويسرع متوجهاً إلى البيت.
لا تتوفر قريته شأنها في ذلك شأن الكثير من قرى اليمن على مستشفى ولا وجود فيها لطبيب. ولهذا قرّر عبد الله التوجه مع أخيه إلى صنعاء. عند الظهيرة يصل عبد الله وخالد إلى العاصمة، ليستقبلهما ضجيج المدينة الكبيرة عند محطة سيارات الأجرة. لم يحضر عبد الله إلا فيما ندر إلى صنعاء. وهو لا يعرف هنا لا طبيباً ولا مستشفى يأخذ إليه أخاه المريض. أما خالد فلم يسبق له البتة أن كان في صنعاء.
أنا بالقرب منهما الآن، حتى وإن لم ينتبها لي، قادماً للتوّ من المدرسة. كان عليّ في الواقع أن أستقلّ الحافلة المخصّصة لنقل التلاميذ، والتي تمرّ بالقرب من باب البيت، لكنّي اليوم تكاسلت كثيراً حتى تأخرت على الحافلة.
محظوظ أنا مرة أخرى. الشاب الغريب حذّرني بطريقة أخوية، حين هممت بأن أعبر الطريق. هذا ما شعرت به على الأقل، أنا، وحيد أسرتي. هل يحقّ لي أن أتركهما يذهبان هكذا؟ وفجأة قرّرت أن أعدو خلفهما، قبل أن أسألهما إن كانا يحتاجان ليد المساعدة.
نستقل سيارة أجرة متوجهين إلى مستشفى الكويت، المستشفى الوحيد الذي أعرفه. إنه مصاب بالتهاب في الزائدة، تقول الممرضة. وهم يريدون الاحتفاظ بخالد لليلة واحدة في المستشفى. أما أنا وعبد الله فعلينا العودة غداً. للحظة فكّرت بأن أمي تنتظرني في البيت لتناول طعام الغداء. لكن ستتفهّم لا ريب أنني لا أستطيع أن أترك صديقي الجديد لوحده. فهو لا يعرف أحداً في المدينة. غير أنه كان عليّ، كما يبدو، أن أكون أكثر معرفة بأمي.
لكن حتى لو أدركت من قبل قلقها وغضبها لما تخليت عن هذه الظهيرة رفقة عبد الله. اعتقدت أني أعرف مدينتي. فقد وُلدت هنا. لكن وأنا أقود عبد الله عبر الأزقة الضيقة للمدينة، تبيّن لي أني لا أعرف الشيء الكثير عنها وبدا كما لو أني أراها لأول مرة.
نصادف بعدها حكواتياً يحكي قصّته في أبيات موزونة، حتى يستطيع تذكرها. يحب اليمنيون أسلحتهم. ودائماً ما ينغمسون في اللعب بها. لكن نادراً ما يستعملونها بشكل جدّي. ولا يعيش الناس فقط في المدينة القديمة، إذ توجد هناك أيضاً أشجار نخيل شامخة وأسواق وجوامع وحمامات ومخابز ومحلات أخرى. وفي قبوٍ نعثر حتى على معصرة تقليدية للزيت. يديرها باستمرار جمل قبل أن يتوقف للراحة أو العلف. وأخيراً بدأ الجوع يراود معدتي، أنا الذي تعودت على تناول وجبة الغداء قبل هذا الوقت. وكبقية زوار السوق طلبنا طعاماً بسيطاً. لا أستطيع أن أزعم بأنه لذيذ لكنه على الأقل يسدّ الرمق.
بعض الأماكن في المدينة القديمة تبدو كقصور غريبة أو جحور ملعونة خارجة من عوالم ألف ليلة وليلة. ولم أكن لأغامر بالدخول لوحدي إلى هذه الأمكنة. لكن يبدو أن عبد الله لا يهاب شيئاً. وفي السوق لا يجري بيع البضائع فقط، بل يتم أيضاً إنتاج عدد كبير منها. فهناك مثلاً سوق النرجيلة وسوق الخناجر. وهناك يمكن أن نراقب عملية صناعتها من حدادة النصل حتى خياطة جلدها الخارجي. ليس السوق مكاناً للعمل والشراء فقط، ولكن للعب والتسوّل والخصام و”الوعد والوعيد” والضحك والألم أيضاً.
وإذا كان وجه عبد الله خالياً تقريباً من الشعر فإنه في حالتي من المضحك أن يقوم الحلاق بحلق وجهي. لكن بالنسبة لعبد الله علينا أن نقتسم كل شيء. وفي العرف اليمني ينظر إليّ كرجل وليس كطفل وإن كنت بعد في الحادية عشرة من عمري. لكن الأمور ستأخذ منحى أكثر جنوناً. فعبد الله يريد زيارة الحمام. أعرف أن زيارة الحمام التقليدي أمر لا بدّ منه بالنسبة لليمني كالصلاة في المسجد. لكنا نملك في البيت حماماً خاصاً، ولهذا لم يسبق لي أن زرت حماماً شعبياً.
يكفي، ضجيج كثير هنا، والحرارة مرتفعة. أشعر كما لو أني سأغادر الحمام أكثر اتساخاً من قبل. لكن لربما أني أشعر بالتعب بعد كل ما عشناه هذا اليوم. يبدو أن الظلام قد أرخى سدوله. حان وقت العودة إلى البيت. ماذا سيفعل عبد الله؟ لا يمكن أن أتركه وحده ليلاً في هذه المدينة! ورغم أن أمي قضت نصف حياتها في اليمن وتزوّجت برجل ينحدر من قبيلة يمنية مقاتلة: أبي، إلا أنها ظلّت ألمانية في قلبها، ولربما أحياناً أكثر ألمانية من جدي وجدتي اللذين يعيشان في لايبزيغ. وأحس نفسي أيضا كألماني هنا. فأنا يمني فقط حين أزور عائلة أمي في ألمانيا.
“خطير” تلك أحب الكلمات إلى أمي في العربية والألمانية. أعرف أن ذلك يخفي قلقها فقط. فالأسر اليمنية تملك عشرات الأطفال في حين أني ابنها الوحيد. وإذا ما كنت أفتقد شيئاً، فهو الإخوة. لكن نظرات أمي ليست دائماً بالغاضبة كما هي عليه الآن. لربما ما زالت غاضبة علي أو أنها تخاصمت مع أبي. ولو ترك الأمر لوالدي، لكنت الآن أحمل سلاحاً وأسوق سيارة، لكن في ما يتعلّق بتربيتي فإن أمي هي من تلعب دور زعيم القبيلة.
كان يوماً مدهشاً بالنسبة لعبد الله ولي، ولكن أيضاً بالنسبة لأبي وأمي. أتذكّر ما قاله أبي من أن الناس في بلاده لا يتركون الضيف وحيداً في الليل، بل إن المضيف يسهر على نوم ضيفه. استغرقنا في النوم طويلاً وأمي أيضاً حتى أني تأخرت عن الحافلة التي تقلني إلى المدرسة. وعد عبد الله أمي بأنه سيرافقني إلى باب المدرسة وبدا أنها وثقت بكلامه. فحتى وإن كانت عاداته في الأكل تبدو بربرية إلا أنه قَبَلي شهم. آه، لو عرفت أمي ذلك، ثلاثتنا فوق دراجة نارية ودون أدنى حماية! لكني لن أقول شيئاً لعبد الله. فقد يتخلى عن ركوب الدراجة النارية بسبب حسّه الكبير بالمسؤولية ويقرّر الذهاب على الأقدام. طبعاً سنصل متأخرين إلى المدرسة، لكننا مررنا من طرق كثيرة حتى نتمتع بمناظر المدينة.
صمّم عبد الله على مرافقتي إلى الفصل. وما دام هو الآخر هنا، فيمكنه البقاء. لست متأكداً من أنه قد تردّد على مدرسة من قبل. إذ يبدو على الأقل أن قواعد أخرى تحكم المدرسة في قريته. أما أنا فأتردّد على مدرسة لا يتردّد عليها إلا أبناء الأسر الغنية في اليمن. وفجأة يقف أمام السبورة، ليس كتلميذ ولكن كمعلم يراقب بدقة ما إذا كان كل ما يقوم به التلاميذ صحيحاً.
تلاميذ الفصل لم يستاؤوا من تصرّفه ومعلم الرياضيات تصرّف كما لو أن وجود عبد الله أمام السبورة أمر عادي. لكن يبدو أن عبد الله يشعر بالملل من الرياضيات ولهذا فضّل أن يقصّ علينا وعلى المعلم الأشياء المهمة في حياة رجل قبلي: الرقصات والأغاني الحربية مثلاً. حتى بقية التلاميذ يحبذون هذا الموضوع أكثر من عمليات الجمع والقسمة. أما معلّمنا فقد ظل جامداً في مكانه يصغي هو الآخر إلى عبد الله حتى دقّ جرس الاستراحة. تغيّبت عن حصة الرياضة ورافقت عبد الله إلى مستشفى الكويت. كان خالد بانتظارنا. تحسّنت حالته الصحية، حتى أنه يمكنه السفر اليوم إلى قريته. رافقت الاثنين إلى محطة سيارات الأجرة. دعاني عبد الله لزيارته في قريته. ووعدته أن أحضر في أقرب وقت لزيارته في قريته تحفير.
رغم أن الرحلة لا تتجاوز ثلاث ساعات إلى تحفير، إلا أني احتجت لوقت طويل حتى أقنع والدي بذلك. اليمنيون ناس مستعدون دائماً لتقديم المساعدة كما أنهم يحبّون الأطفال، فلن يقدم أحد على مهاجمة طفل هنا. لكن أمي تخاف من حركة المرور الفوضوية والطرق الصعبة وشظف العيش في قرية بعيدة، أما أبي فقد وافقني الرأي في النهاية، فهو بنفسه ينحدر من قرية. أقلّتنا سيارة الأجرة حتى بيشام* ومن هناك كان علينا انتظار أن تقلّنا سيارة إلى قرية عبد الله. وصلنا إلى تحفير عند الظهيرة. وسمعنا أن عبد الله ما زال يعمل في الحقل.
يحيى، مرافقي طوال الرحلة، يعرف الطريق إليه. أردت أن أفاجئ عبد الله بزيارتي هناك. ولحسن الحظ لم يكن عليّ أن أقطع الطريق إلى الحقل على الأقدام. ويبدو أن ركوب الحمير لا يقل إثارة عن ركوب الدراجات النارية. إنها أم عبد الله. إنها تختلف بشكل مطلق عن أمي. فهي تعامل ابنها كما لو كان سيد البيت. ولربما يتوجب على أمي أن تتعرف عليها يوما. لن أحدّث أبي عن الدرس الأول في مدرسة الحرب القبلية إلا في غياب أمي. إنه والد عبد الله. لما دلف إلى الغرفة، تغيّر سلوك عبد الله فجأة. وبدا كما لو أنه يريد أن يعيد إلى والده دور سيد البيت ويعود إلى دور الابن المطيع.
وبينما نحن نتحدث في غرفة الضيوف، كانت أم عبد الله تعدّ لنا الطعام الذي سيقبل عليه كل رجال البيت بشهية عارمة. والآن، وجدتني من يجهل هنا قواعد المائدة. أردت أن أتناول الطعام بأصابعي، لكنّي استعملت بشكل لا واعٍ يدي اليسرى. وبدا لي خلال الطعام بأن الحياة في القرية لها هي الأخرى قواعدها الخفية مثل حياة المدينة.
أطلعني عبد الله على القرية الجديدة والقديمة، وبدت لي القرية الجديدة نفسها ضاربة في القدم. في الماضي عاش الناس فوق الجبل حتى يتحصّنوا أفضل من الأعداء. كانت البيوت يومها بلا نوافذ، أشبه بالقلاع منها بالمنازل، لكن السكان استعاضوا عنها بعد ذلك ببيوت جديدة وكبيرة ومشرعة على ضوء النهار، فلم يبق من البيوت القديمة سوى الركام. لكن في أوقات الحرب، يقول عبد الله، يعود الناس دائماً إلى هذا المكان.
لن يذهب عبد الله كالمعتاد إلى الحقل، لأن قواعد الضيافة تستدعي أن يظلّ رفقة ضيفه. لكنه مع ذلك يرافقني إلى الحقول، وهذه المرة ليس للعمل بل للّعب رفقة بقية الأطفال، رغم أنه غادر فترة الطفولة منذ زمن. لكن قواعد الضيافة تأتي فوق كل شيء. وأعتقد رغم ذلك أن عبد الله يستمتع باللعب مع الأطفال. بعض الألعاب كنت أجهل وجودها وبعضها الآخر معروف في كل أنحاء العالم.
لا أتذكّر يوماً اتّسخت فيه ملابسي إلى هذا الحد، ولا أذكر يوماً تمتّعت فيه باللعب مثل هذا اليوم. بالنسبة لحضريٍّ مثلي فمن المبكر الذهاب إلى النوم. لكن هنا في القرية يستسلمون للنوم عند غروب الشمس ليستيقظوا مع أولى خيوط الفجر. أنا جد متعب من مغامرات اليوم، ما جعلني أستسلم مباشرة للنوم. ولما استيقظت صباح اليوم التالي، كان عبد الله وأخوه قد توجها إلى الحقل. أصعد إلى السطح بحثاً عن عبد الله. فقد وعدني بمرافقتي إلى الجبل لكي يعلمني رقصة الحرب اليمينة. ومقاتل قبلي لا يمكنه أن يخلف وعده!
شاي وخبز في طعام الإفطار. وفي ظل الفرحة بوجودي هنا، أنسى كم شظف هو العيش في القرية. لم أعد أخاف من رؤية الأسلحة. والشباب لا يحملون السلاح لأنهم ذاهبون إلى الصيد أو للدفاع عن أنفسهم ولكنها العادة فقط أو الرغبة في التباهي. فمثل الخنجر الذي يعلّقه اليمنيون في حزامهم فإن السلاح تعبير عن كرامة القبيلة. وحتى خلال الرقص تراهم، يحملون أسلحتهم معهم. ويتوجب على كل أب يمني، كما أوضح لي عبد الله، أن يعلم أبناءه الرماية والفروسية والرقص الحربي.
فالرقص الحربي جزء لا يتجزأ من العادات القبلية وأحد تمظهراتها، شأنه في ذلك شأن الخنجر. ففي الماضي كان الرجال يقبلون على هذا الرقص قبيل الحرب. أما اليوم فيرقصون طلباً للتسلية فقط. إن طريقة الخطو أشبه بلحن تعريفي. فلكل قبيلة طريقة خطوها الخاصة بها. والمقاتلون المجرّبون يمكنهم التعرف على قبيلة خصمهم من طريقة خطوه خلال الرقص.
إن الرقص هنا تعبير عن هوية جماعية، بل أنا الضيف أشعر اللحظة بالانتماء إليهم. يتصاعد الإيقاع ويزداد الرقص وحشية، ليذكرني أحياناً برقصات الهنود الحمر. ولربما تقف الأسباب نفسها حول هذا النوع من الرقص. وإلى جانب الرقص الحربي تتوفر كل قبيلة على أناشيدها الحربية. إنها جمل مقفّاة تمتدح القبيلة وتهجو أعداءها. إنها تهدف إلى رصّ صفوف القبيلة وبثّ الرعب في نفوس الأعداء.
لكم أشعر بالحزن لأني قضيت كل حياتي في هذا البلد ولكن لم أعرف الشيء الكثير عنه. لكن إذا ما عدت إلى صنعاء فسأطلب من والدي أن يعلمني رقصة قبيلته وأناشيدها الحربية. فلأول مرة أدرك أنّي أيضاً محارب قبلي. في نهاية زيارتي يطلعني عبد الله على مضخّة المياه التي كنت أسمع صوتها طوال أيام إقامتي. هذه المضخة تزود كل القرية بالماء وتسقي الحدائق والحقول، ولولاها لما تمكّنت القرية من البقاء والاستمرار ولهجرها أهلها إلى المدينة. بعدها توقّفنا ننتظر سيارة تأخذني إلى صنعاء.
مرّت الآن عشر سنوات على لقائي بعبد الله. واليوم، أنا طالب حقوق في جامعة لايبزيغ الألمانية. لم أر بعدها عبد الله مرة أخرى. وسمعت سنة 2004 بأن الجبل الذي أخذني عبد الله إليه قد هوى ليلاً على منازل القرية الصغيرة ليدفن العشرات منها، وليقتل أكثر من أربعمائة شخص، كان صديقي عبد الله من بينهم وكل أسرته وكثير من الأطفال الذين سبق ورقصت رفقتهم رقصة الحرب القبلية.
* Michael Roes إثنولوجي وكاتب وصانع أفلام ألماني من مواليد عام 1960. تخرّج بدرجة دكتوراه من “جامعة برلين الحرّة” عام 1991، وقادته أبحاثه الأنثروبولوجية إلى فلسطين (1987-1991)، واليمن (1993-1994)، ومالي (1999). من مؤلفاته “الربع الخالي” (1996)، و”تاريخ الصداقة” (2010) و”الأصوات” (2012)، و”أسطورة الثعبان الأبيض” (2014). ومن أفلامه الوثائقية: “عبد الله وآدريان” (1996)، و”باردو” (2016).
** ترجمة عن الألمانية: رشيد بوطيب
نقلا عن العربي الجديد