غير مصنففكر وثقافة

قبور الأحياء في اليمن تعايش معها المجتمع والسلطات المتعاقبة منذ عقود

مَن يزور أي مقبرة من مقابر صنعاء قد لا يستطيع التفريق بين قبر حقيقي وآخر محجوز لمن لم يمت بعد يمن مونيتور/القدس العربي

هل فكرت أن تحجز لك قبراً قبل موتك وتُقيِم أركانه وتداوم على زيارته؟ هل فكرت أن تستقطع عشرات القبور (الافتراضية) إن جاز التوصيف، في موقع (مناسب) في المقبرة لتستخدمها متى تشاء؟ يحدث ذلك في بعض مقابر صنعاء ضمن ظاهرة تعايش معها المجتمع والسلطات المتعاقبة منذ عقود، لدرجة قد تجد هناك مَن اقتطع مساحة في مقبرة وأقام عليها قبوراً تخصه، ومنح تلك القبور أرقاماً أو أسماء أو يتركها بدون ذلك، لكن حراس المقبرة يعرفون أنها تخص فلانا يستخدمها لمن يريد. كل ذلك يحدث تحت عنوان «القبور المحجوزة للأحياء» في سياق مشكلة تتفاقم مع تزايد معاناة المدينة من أزمة مقابر منذ عقدين ونيف.
«القدس العربي» أول وسيلة إعلامية تناقش هذه الظاهرة، لاسيما وقد صارت تتعلق بآلاف القبور المحجوزة للأحياء في مرحلة يتزايد فيها عدد الوفيات، وبالتالي تتزايد الحاجة إلى القبور، وذلك جراء تداعيات الحرب الوحشية والحصار الظالم اللذين تسببا في أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
والظاهرة تتضح في معظم المقابر الكبيرة في العاصمة، وخاصة تلك الواقعة في مناطق الكثافة السكانية، كمقبرة خُزيمة، مثلاً، الواقعة جنوب ميدان التحرير وسط المدينة، أو مقبرة النُجميات، الواقعة جنوب المدينة، وغيرها من المقابر، والتي تطورت فيها هذه الظاهرة، حتى أصبح لقبور موتاها الأحياء حكاية تُروى.
حراس ونافذون
وفيما يتحفظ حُراس بعض تلك المقابر على كشف هُوية مَن يستحوذون على مجموعات من القبور المحجوزة لهم منذ سنوات في المقابر الرئيسية في المدينة، نجدهم في الوقت ذاته، لا ينكرون الظاهرة، وكيف ينكرونها وقد صارت واقعاً له شواهد وقصص؟ ولهذا لا يخفي بعض هؤلاء الحراس وحفارو القبور هناك مخاوفهم مما صارت تمثله هذه الظاهرة من مشكلة، خاصة في الوقت الراهن مع تزايد طلبات حجز القبور، «إذ من غير المعقول أن يستمر هذا الوضع، فمعظم من يموتون فقراء ومعدمون وأحياناً لا يجدون ما يغطي كلفة القبر، وفي المقابل كثيرون يحجزون قبوراً أو يطلبون ذلك، وهؤلاء غالباً أغنياء وميسورون» يقول أحد حفاري القبور في مقبرة خُزيمة، وسط المدينة.
السكان والمقابر
تعاني مدينة صنعاء من كثافة سكانية زادت خلال الحرب المستعرة هناك، وذلك جراء ارتفاع نسبة النزوح إليها من جميع محافظات البلاد، حتى بات عدد سكانها، وفق مصادر غير حكومية، يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة، وهو ما زاد من تعقيد المشكلة المترتبة عن قلة عدد المقابر فيها منذ عقود.
مَن يزور أي مقبرة من مقابر صنعاء قد لا يستطيع التفريق بين قبر حقيقي وآخر محجوز لمن لم يمت بعد، حيث هيئة القبر المحجوز مثلها مثل هيئة القبر الحقيقي، إلا أن حراس المقبرة وحفاري القبور وبعض الجيران يعرفون ويميزون بينها إلى حد ما، ويبقى حفارو القبور وحراس المقبرة همّ أكثر دراية بالقبور المحجوزة وهُويات مَن تعود لهم.
ويصل عدد مقابر المدينة إلى مئة مقبرة أصبح30 في المئة منها مغلقة بعد استنفاد مساحتها، وفق مكتب الأوقاف والإرشاد في العاصمة؛ وهنا تصبح مشكلة المقابر، (في حال تخصيصها فقط للموتى)، مؤرقة للمواطنين والجهات الرسمية، بل أن هذه المشكلة تصبح أكثر تعقيداً في ظل تجاهل السلطات القائمة وضع حدٍ لاستمرار الأحياء في الاستحواذ على ما هو حق للموتى.
مُحَمّد (35 سنة) دفن والده، مؤخراً، في مقبرة النُجيمات، جنوب صنعاء، وعندما انتهى الدفن طلبَ من حراس المقبرة حجز قبر بجانب والده لتدفن فيه والدته عند موتها، وهو ما كان، حيث أحضر طوباً واسمنتاً وعمالاً، ودفع رسوم ذلك، وأقام البناء العلوي للقبر الذي حجزه لوالدته التي ما زالت حيّةً تُرزق، إلا أنه صار لها قبر محجوز في المكان الذي أرادته بجوار قبر زوجها. محمد يعتبر المسألة أمراً اعتيادياً لا يخالف شرعا أو قانونا على حد قوله، «بل يمكن اعتباره قبرا حقيقيا من الآن، فوالدتي أرادت أن تُدفن عند موتها بجانب قبر زوجها، ولهذا حجزنا لها مساحة قبر بجوار قبره».
هكذا يأتي كثير من الناس إلى المقبرة، يقول فؤاد السفياني، وهو أحد حراس مقبرة خُزيمة، وسط العاصمة، « هذا يريد أن يحجر له قبراً بجوار قبر أبيه أو أمه أو أخيه أو جده. كنتُ في السابق لا أمنع أحداً من الحجز ما دام سيتكفل بتكاليف البناء، إلا أنني، وأنا هنا أتحدث عن نفسي فقط، وبعدما تطورت المسألة، وعرفت أنها مخالفة للشرع صرت أرفض أن أحجز قبراً لأي كان، بل بسبب رفضي لذلك صرت أتعرض إلى مشاكل من الناس». لكن فؤاد لا يقول إن مسألة حجز قبور للأحياء قد توقفت.
وأكد السفياني أن مشكلة حجز القبور هي مشكلة قديمة، كما ذكر أن القبور المحجوزة لأحياء في المقبرة صار عددها بالآلاف، وقدّر أن يتجاوز عددها الألفي قبر محجوز داخل مقبرة خزيمة.
موتى قادمون
تنقّل كاتب السطور بمساعدة أحد حفاري القبور في أرجاء مقبرة خُزيمة، للاطلاع على مشاهد من حالات (القبور المحجوزة) واستطعنا أن نكوّن فكرة عن واقع حال هذه الظاهرة المنتشرة في كثير من مقابر العاصمة، والتي تبرز واضحة هنا؛ وذلك ربما لأن معظم أهالي صنعاء يفضّلون أن يُدفنوا فيها.
تتنوع حالات القبور المحجوزة للأحياء في خُزيمة، بدءاً من وقوفنا أمام شاهد قبر عليه اسم شهيد، بينما هو في الأصل ـ وفق أحد حفاري القبور ـ قبر محجوز، ولم يسبق الدفن فيه؛ ومنه انتقلنا إلى حالة أخرى، وهي قبور يصل عددها إلى أربعين موزعة في مجموعات في أنحاء المقبرة، وتحمل شواهدها أرقاماً، وقال أحد الحفارين إنها لأحد النافذين، ويعمل وكيل وزارة (..). إلى تلك الحالات ثمة أخرى لهذه القبور متمثلة في مجموعة أخرى تحمل شواهدها لقب عائلة من كلمة واحدة مكتوبة بالطلاء. وتتنوع حالات قبور الأحياء لتشمل قبوراً تحتل أماكن هامة في بعض المقابر بعضها على ممرات كبيرة وأخرى في مقدمة المقبرة، وعلى الرغم من إنكار حراس المقابر إنه يتم البيع والمتاجرة بتلك القبور لمن يحتاجها من الأثرياء، إلا أن مصادر أكدت أنه يتم بيعها والمزايدة بأسعارها. حالات عديدة تتسع وتتمدد معها ظاهرة قبور الأحياء داخل مقابر الموتى في صنعاء.
مشكلة قديمة
قد يعتقد البعض أن هذه الظاهرة وليدة المرحلة الراهنة، بينما هي قديمة، وتعود بدايتها لما قبل خمسة عقود وفق بعض المصادر، وإن كان ذلك يحتاج لدراسة علمية لم تنفذ بعد، إلا أن تلك المصادر ترجّح بدايتها في مقبرة خُزيمة، منذ كان يتم تخصيص أماكن منها لقبور بعض موتى عائلات معينة من أهالي المدينة، وهو ما نجده، اليوم، في تجمع قبور بعض تلك العائلات في أماكن معينة في المقبرة؛ وهو الأمر الذي تطور مع نشأة مدينة جديدة خارج أسوار المدينة القديمة، وبالتالي تم إيجاد مقابر جديدة، إلا أن المقابر القديمة والجديدة في صنعاء بقيت دون تخطيط وتنظيم وإدارة ورعاية حتى الوقت الراهن، بل بقيت محصورة فيما يتم إيقافه من الواقفين أو من وزارة الأوقاف، وبقيت كذلك على تلك الحال، للأسف، من قِبل كل السلطات في الحكومات المتعاقبة، حتى تطورت مع تزايد الكثافة السكانية وظهور مشكلة قلة المقابر، في ظل افتقاد القائمة منها لإدارات معنية بشؤونها باستثناء حراس فقط.
ومع تجذر (ثقافة الاستحواذ) في الوعي الاجتماعي بموازاة ثقافة الفساد المستشرية في وعي وجسد الدولة، لم تكن المقابر بمنأى عن تلك الثقافة، فظهر مَن يقتطع لنفسه وعائلته جزءاً من مقبرة يُقيم عليها قبوراً محجوزة تصبح تحت تصرفه، وكأن امتلاك ذلك صار جزءاً من مستلزمات المظهر والنفوذ ربما، وهو ما انتقل إلى الأفراد العاديين الذين بدأوا يحجزون قبوراً لأنفسهم أو لذويهم، خاصة وأن الأمر لا يتطلب سوى بضعة آلاف من الريالات يحجز بواسطتها قبراً في المقبرة المجاورة لمنزله، وذلك قبل نفاد مساحتها أو للاستفادة من ذلك القبر واستغلاله أو حرصاً على أن يكون قبره في واجهة المقبرة أو أن يكون موقعه مناسبا لزوراه، وهو ما تطورت معه تلك الحالات إلى ظاهرة تشمل اليوم آلاف القبور المحجوزة لأحياء على حساب موتى معظمهم مُعدمين يتزايد عددهم في الفترة الأخيرة مع تدهور الأحوال المعيشية. يقول أحد حراس مقبرة خُزيمة: حجز القبور لم يعد مقصوراً على الرجل بل تأتينا نساء أيضاً، بل أن هناك شبابا لديهم قبور محجوزة منذ سنوات.
الدولة والموتى
وهنا يحذر الكاتب والباحث أحمد ناجي النبهاني من استمرار هذا الظاهرة من دون معالجة جذرية، وقال إن مؤسسات الدولة تتحمل مسؤولية معاناة مقابر الموتى مما اسماها ثقافة الاستحواذ، التي تجاوزت مظاهر الحياة إلى متطلبات ما بعد الموت، وأضاف: «هذه المؤسسات منذ نشأتها في صنعاء لم ترع حُرمة المقابر ولم تحفظ حقوق الموتى. وظاهرة القبور المحجوزة هي نتاج لخلل ثقافي قيمي في الوعي المؤسسي والمجتمعي تجاه الحقوق العامة؛ ولهذا تجد هذا التعدي على حقوق الموتى». وتساءل مستغرباً: «كيف يستحوذ أحياء على ما هو حق لموتى ويتصرفون به وكأنه ملكية خاصة لهم بينما المقابر ملكية عامة أوقِفت للموتى لا للأحياء؟». وطالب ناجي مكتب الأوقاف في صنعاء بسرعة التحرك وإزالة القبور المحجوزة قبل أن تتفاقم مشكلتها على حساب قبور الموتى الفقراء.
تصحيح الوضع
نائب المدير العام لمكتب الأوقاف والإرشاد في صنعاء محمد الغليسي تحدث عن «أن صنعاء تعاني من أزمة مقابر منذ عقود، وتتعرض مقابرها لضغط كبير، وخاصة في السنوات الأخيرة، جراء العدوان (قوات التحالف) الذي يتعرض له البلد، وما ترتب على ذلك من معاناة وتزايد في الوفيات». وقال إن المكتب يدرك حجم المشكلة الناجمة عن القبور المحجوزة، مشيراً إلى أنه نفذ نزولاً ميدانياً لإحدى المقابر، ووجد مَن يستغل أماكن هامة في المقبرة ويحجز فيها قبوراً ويبيع القبر بسعر وصل إلى خمسين ألف ريال (مئة دولار أمريكي)، مؤكداً أن الأوقاف تعمل حالياً، على معالجة مشكلات المقابر المتفاقمة من فترات سابقة، بما فيها مشكلة حجز القبور، و«سنتخذ قراراً بتشكيل لجنة وإزالة القبور المحجوزة؛ لأنها ظاهرة مخلة ومخالفة للشرع وتفاقم من معاناة الناس».
وبعد
لم تكن المقابر بمنأى عن الخلل المتجذر في مؤسسات الدولة في علاقتها اللامسؤولة بالحقوق العامة، وما نجم عنها من مشاكل كرسها تفشي ثقافة «دبر حالك» على حساب معنى الوطن وإنسانية المواطن، حتى لامس الخلل العلاقة بحقوق ما بعد الموت، وهو حق القبر مقابل تراجع أولوية الايمان بحق الحياة أمام شيوع ثقافة التملك وتمددها لتشمل القبور التي أصبحت ضمن أملاك أشخاص وربما يورثونها لأبنائهم الذين يتقاسمون بعد وفاة الأب قبوره المحجوزة باسمه في مقبرةٍ هنا وهناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى