كتابات خاصة

أوهام الناس في السحر (5)

عبدالله القيسي

نواصل في هذه السلسلة نقاش ما يستند إليه أولئك القائلون بأن السحر تغيير لحقائق الأشياء واستخدام للجن للإضرار بالإنس، ومما يستندون إليه في ذلك قوله تعالى في سورة الفلق (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)  نواصل في هذه السلسلة نقاش ما يستند إليه أولئك القائلون بأن السحر تغيير لحقائق الأشياء واستخدام للجن للإضرار بالإنس، ومما يستندون إليه في ذلك قوله تعالى في سورة الفلق (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) الفلق: 4. حيث فسرها كثير من المفسّرين بأن «النفاثات» هن النساء الساحرات، وأن اللفظ صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ، وأن النسوة الساحرات كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر.

ليس كل المفسرين على ذلك التأويل وإنما اختلفوا في المراد بـ”النفاثات في العقد” على أقوال، وسأختار من تلك الأقوال ما يتسق مع رؤية القرآن في موضوع الجن والسحر حتى نخرج برؤية متسقة غير متناقضة في هذا الموضوع:
القول الأول: أن المراد السواحر والسحرة، وهذا قول الحسن البصري رواه الطبري في تفسيره واختاره ابن حجر في فتح الباري، وهذا التفسير يقتضي شمول دلالة اللفظ للذكور والإناث من السحرة.
القول الثاني: المراد النساء السواحر، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ثم قال به مقاتل بن سليمان والفراء وأبو عبيدة، ثم صدَّر به ابن جرير تفسيره للآية، وقد اشتهر فيما بعد أكثر من غيره من الأقوال.
القول الثالث: أن المراد النفوس النفاثات، وهذا القول ذكره الزمخشري في الكشاف، وذكره من باب الاحتمال حيث قال: (النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين)، ثم ذكره الرازي كأحد الأقوال التي قيلت في تفسير الآية، ورجحه ابن القيم في بدائع الفوائد.
القول الرابع: النفاثات النساء، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم، مستعار من عقد الحبال، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا، فمعنى الآية: إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة.. وهذا الرأي اختاره أبو مسلم الأصفهاني وهو من أشهر مفسري المعتزلة ولكن كتابه لم يصل إلينا، والمعتزلة كما اشتهر عنهم ينكرون حقيقة السحر لمخالفته للقرآن وللعقل، ولكنهم في تأويل الآية ليسوا على قول واحد كعادة في كثير من القضايا الجزئية، فمن آرائهم ما وصل إلينا ومنها ما لم يصل لاندثار كتبهم، وكم تمنيت لو وصلت كل آرائهم في تفسير القرآن إلينا.
ومثل هذا القول أو قريب منه ذهب إليه الشيرازي -وهو من المفسرين الشيعة المعاصرين- في تفسيره للآية حيث قال:
إنّها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في أذن الرجال وخاصّة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى، وما أكثر الحوادث المؤلمة التي أدت إليها وساوس أمثال هذه النسوة طوال التاريخ! وما أكثر نيران الفتنة التي أشعلتها، والعزائم التي أرختها وأوهنتها! وهذا المعنى في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إنّ إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدقّ الأسرار. وقيل: إنّ النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب.
ثم يقول: ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كلّ اُولئك ويشمل أيضاً النمامين والذين يهدمون بنيان المحبّة بين الأفراد، وينبغي التأكيد على أنّ السّورة لا تتضمّن أية دلالة على أن المقصود بآياتها سحر الساحرين.
القول الخامس: وهو الرأي الذي أختاره من بين تلك الآراء لكثرة اتساقه، وهو تفسير الإمام محمد عبده حيث يقول:
العقد ما تعرفه في الخيط والحبل جمع عقدة، ثم تستعمل العقدة في كل ما ربط وأحكم ربطه، ولذلك سمى الله الارتباط الشرعي بين الزوجين “عقدة النكاح” وسمى الإيجاب والقبول ونحوه عقداً ونسميه عقدة أيضا.
والنفث النفخ الخفيف أو النفخ مع شيء من الريق، والنفاثة من صيغ المبالغة كالعلامة والفهامة يستعمل كذلك للذكر والأنثى والنفاثات جمعه، والمراد بهم هنا النمامون المقطعون لروابط الإلفة، المحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما في الآية لأن الله جل شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه مثلاً فيما يوهمون به العامة عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها، ليكون ذلك حلاً للعقدة التي بين الزوجين، والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر لأنها تحول بين الصديقين من محبة وعداوة بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تضلل وجدان الصديقين كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب الغاسق إذا وقب، ولا يسهل على أحد أن يحتاط للتحفظ من النمام فإنه يذكر عنك ما يذكر لصاحبك، وأنت لا تعلم ماذا يقول ولا ما يمكن أن يقول، وإذا جاءك فربما دخل عليك بما يشبه الصدق حتى لا يكاد يمكنك تكذيبه، فلا بد من قوة أعظم من قوتك تستعين بها عليه وهي قوة الله.
وتابعه في ذلك الرأي الشيخ المراغي بقوله:
(ومن شر النفاثات في العقد) أي ومن شر النمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمى الارتباط بين الزوجين: عقدة النكاح.
فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها فالنمام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه، إذ يقول كلاما ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهاما للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين.
كان هذا هو آخر دليل من القرآن استدل به أولئك الذين يرون للسحر حقيقة وأنه استخدام للجن في الإضرار بالإنس، ولأن الآية لم تذكر السحر أو طريقته صراحة فقد رأينا كيف اختلفت التفسيرات والتأويلات حولها، ومن ثم فقد سقط استدلالهم بها..
في الحلقة القادمة والأخيرة إن شاء الله سأناقش خلاف المعتزلة مع أهل السنة في حقيقة السحر وكيف تحدث المعتزلة مبكرا عن بعض أسباب الاختلالات العقلية.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى